عاطف الطيب… ضمير السينما المصرية في مواجهة الكاميرا من جديد

عاطف الطيب
عاطف الطيب

في الذكرى الثلاثين لرحيله، فيلم وثائقي جديد يعيد إحياء مسيرة المخرج الذي كتب تاريخ الناس على الشاشة.

 

في زمن يعيد تعريف الفن وأدواره، ويخلط كثيرًا بين البريق والحقيقة، يعود اسم عاطف الطيب إلى الواجهة. ليس بعمل جديد من توقيعه، بل بعمل يُسلّط الضوء عليه هو نفسه، في محاولة لفهم ما لم يُفهم، وتوثيق ما لم يُوثق كفاية.

وبمناسبة مرور ثلاثين عامًا على رحيله، تعرض قناة “الوثائقية” التابعة للشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، فيلمًا جديدًا يرصد مسيرة واحد من أهم صُنّاع السينما الواقعية في مصر والعالم العربي، مخرجٌ لم يكن فنانًا عاديًا، بل صوتًا أصيلًا يعكس نبض الناس، ويُحيل الحكايات الشخصية إلى مرآة اجتماعية كاشفة.
 

من الصعيد إلى شاشة الوطن


 وُلد عاطف الطيب عام 1947 في مركز المراغة بمحافظة سوهاج، في بيت بسيط، لم يكن الفن فيه خيارًا مطروحًا. لكن شيئًا ما في الطفل الهادئ، المتأمل، كان ينظر للعالم نظرة مختلفة. التحق بالمعهد العالي للسينما، وتخرج عام 1970، في وقت كانت فيه مصر تعيش حالة من القلق والتحول بعد نكسة 1967.


 لكنه لم يبدأ حياته فورًا كمخرج… بل عمل في البداية مساعدًا مع عدد من أعظم الأسماء: يوسف شاهين، شادي عبد السلام،كمال الشيخ ومحمد خان.


 وفي عام 1973، شارك مع زملائه في توثيق حرب أكتوبر عبر الكاميرا، في مهمة لم تكن مجرد تصوير معركة، بل استعادة كرامة وطن وذاكرة جيل.


 

عاطف الطيب: المخرج الذي كان يحب الناس أكثر من الأضواء


 منذ فيلمه الأول كمخرج، “الغيرة القاتلة”، ظهر خطه المختلف. لكنه بلغ ذروته مع “سواق الأتوبيس” (1982)، الفيلم الذي صفع الجمهور بواقعيته الموجعة. لم تكن السينما معه وسيلة هروب، بل وسيلة مواجهة.


 من خلال بطله البسيط، السائق الذي يتحمل عبء أسرته، فتح الطيب الباب أمام سينما لا تخشى كشف الوجع، ولا تخجل من طرح السؤال الأصعب:

“لمن تنتمي هذه البلاد؟”


 توالت بعد ذلك أفلامه الخالدة:

“البريء” (1986): عن الجندي الطيب الذي يتحول إلى أداة قمع، ثم يصحو ضميره.

“الهروب” (1991): عن شاب بسيط يطحنه الظلم فيركض… ويهرب… لكنه لا ينجو.

“كشف المستور”، “ضد الحكومة”، “ملف في الآداب”… كل عمل كان نافذة على همّ جمعي، لكنه مكتوب بلغة إنسانية شديدة الخصوصية.
 

لغة الطيب: البساطة التي تكشف العمق

 

ما يميّز سينما الطيب أنها لا تعتمد على الخطابة أو الشعارات، بل على صدق المشهد، وقوة الإحساس، وانحياز واضح للناس الغلابة.

حتى في تعاونه مع كتاب كبار مثل بشير الديك، وحيد حامد، ورأفت الميهي، كان دائمًا يُشكّل النص بما يخدم رؤيته: لا بطولات زائفة، لا نهايات مرتبة، فقط الحياة كما هي… بلا رتوش.

فيلم “الوثائقية”: إضاءة على الغائب الحاضر


 الفيلم الذي يُعرض قريبًا على قناة “الوثائقية”، لا يكتفي بسرد السيرة، بل يفتح النوافذ نحو روح الطيب، كما عرفها المقربون منه.

يضم العمل:

• شهادات لمخرجين وممثلين ومساعدين عاصروه،

مشاهد أرشيفية نادرة من كواليس أعماله،

• تحليل نقدي لتطوّر خطه الفني والإنساني،

• مقاطع من أفلامه تم توظيفها بشكل بصري مؤثر، لتعكس فلسفته العميقة دون الحاجة لشرح مباشر.


 كما يلقي الضوء على معاناته الصحية، وموقفه المبدئي من الرقابة، والإنتاج، والسلطة. مواقف لم يساوم عليها، حتى وهو يعلم أن “ثمنها مش قليل”.

الغائب الذي لم يغب

 

توفي عاطف الطيب في 23 يونيو 1995، عن عمر لم يتجاوز الـ47 عامًا. رحل في عز عطائه، وهو يُحضّر لفيلم جديد، لكن رحيله لم يطفئ أثره.

 

تلاميذه ورفاقه، وجمهوره من كل الأجيال، ظلوا يرددون اسمه كلما طُرحت الأسئلة:

• أين السينما الاجتماعية اليوم؟

• من يتكلم عن الناس؟

• من ينحاز للحق مهما كان الثمن؟

 

في زمن المساومات، يظل اسم الطيب علامة نادرة في تاريخ السينما العربية: فنان مات كما عاش… واقفًا.

العرض… والرسالة

 

يعرض الفيلم خلال شهر يونيو على قناة “الوثائقية”، ليكون ليس فقط تأريخًا لسيرة مخرج عظيم، بل دعوة مفتوحة لإعادة اكتشاف سينما تحمل موقفًا، وشهادة ميلاد لفن لا ينسى الناس في خضم التسلية والربح.
 

“عاطف الطيب لم يكن مخرجًا فقط… كان ضميرًا.

ضميرًا آمن أن الكاميرا يمكن أن تقول الحق، وتُكمل المعركة.”

تم نسخ الرابط