منذ خمسين سنة، صرخ صلاح جاهين على لسان سعاد حسني في وجه الموجة الأولى من الهجمة الثقافية على روح مصر:
"خَلِّي بالك من زوزو".
لم تكن تلك مجرد عبارة فيلم ولا جملة شاعر، كانت صرخة دفاع عن الضحكة، عن البهجة، عن بنت بسيطة جميلة، حرة، تشبه البلد في لحظاته الحلوة..
زوزو لم تكن شخصية، زوزو كانت مصر التي تعرف كيف تضحك وترقص في الشوارع رغم ضيق الحال، تخرج من حارة فقيرة لتقف في مدرج الجامعة وتضع تاج الفتاة المثالية..
زوزو هي مصر لما كانت ترتدي الفساتين الأنيقة، لما كانت تزهو بألوان الحياة..

في "خَلِّي بالك من زوزو" رأينا مصر تضحك وتبكي وتغني مع سعاد حسني.
حسن الإمام منحها الضوء، وصلاح جاهين منحها المعنى، وفي الخلفية، يقف محيي إسماعيل  "عِمران"، هذا الرجل الذي اختصره الفيلم في بنطلون قصير، وقميص خانق، وصرخة هوس: 
"جمــــعاااااء!!"
ظل يلاحق زوزو باسم الفضيلة، وهو لا يعرف من الفضيلة سوى عداء الضحك، وكراهية الحب، وخصام الحياة. 
عمران، لم يكن فردًا، بل ثقافةً عاتية مدعومة بأموال البترودولار، أرادت أن تخنق الرقص وتدفن الضحكة وتكتم الأغنية، وتسلب مصر قوتها الناعمة، بعد أن كانت هوليوود الشرق.

بعد خمسين عاما عرض فيلم "خلي بالك من زوزو"، لو عُرض مجددًا، أو فُكِّر بإنتاج يشبهه، فلن يكتفي عمران بالصراخ. سيخرج من شاشات الهواتف، ومن لجان الوعظ، ومن تعليقات "السوشيال ميديا"، سيتهم زوزو بكل ما يُهين، سيتهم صناعه بالانحلال، وسيعتبر البهجة عهرا، والحياة خيانة،  ما كنا نحسبه فنا وبهجة في مصر الرحبة، يُجرّم الآن في مصر الضيقة.

كانت مصر زمان بلدًا تشبه زوزو. واسعة الأفق، تصنع من بنت راقصة بطلة. لم تكن حضارتنا خجولة من نفسها. كنا نُعلّم العالم، وننتج الجمال بكل أشكاله: من أحمد لطفي السيد، إلى الشيخ شلتوت، من نجيب محفوظ إلى سامية جمال، من زويل إلى عدوية، من صالح سليم إلى مجدي يعقوب..
كنا بلدًا فيه المتاحف كما فيه الموالد، فيه عبد الحليم، كما فيه الشيخ عبد الباسط. كنا نعرف أن الحياة تتسع لهؤلاء جميعًا، كنا بلد حسن ومرقص وحتى كوهين..

مصر اليوم ليست كما كانت. لم تعد تحتمل وجود زوزو، بل تتأفف من ضحكتها، وتستنكر فستانها، وتتحسس من لهجتها الشعبية. تكره ألوانها الزاهية تتوجس من فستانها الأحمر، ترجف في العباءة السوداء، وتنزوي في الركن الأسود الكئيب..
مصر اليوم تفضل عمران. تفسح له المجال ليرفع صوته ويكمم الآخرين، لميثل الفضيلة نهارا، وينتهكها سرا..

في ذكرى سعاد حسني، لا نرثي فنانة فقط، بل نرثي عصراً كانت فيه مصر تعرف أن الفن ضرورةٌ لا ترفٌ، وأن الإنسان لا يُقاس بملابسه بل بأحلامه، وأن السينما مرآة أحلام الناس، كانت تعرف أن البهجة حياةٌ لا انحلالٌ، أن الأناقة جمالٌ لا عري..

زوزو لا تموت، لأنها فكرة. وكل فكرة تُقمع، تبقى حية في ضمير الزمن..
زوزو لا تموت، لأنها مصر، ومصر كلما جارت عليها الأيام أو عدا الزمن تعود، فمصر لا تموت.

تم نسخ الرابط