الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة إسلامية، وقد جاءت نصوص شرعية كثيرة تؤكد على أهميتها وعظيم شأنها.
جاء في القرآن: 
﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾          [آل عمران: 104].
هذه الفريضة، كغيرها من الفرائض، تخضع لضوابط وشروط، وتتطلب فهمًا عميقًا لمقاصد الشريعة وروحها، لا مجرد التمسك بظواهر النصوص دون إدراك لحقائق الواقع ومتغيراته.

 

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بواكير الإسلام، وفي المجتمعات التي تفتقر إلى المؤسسات المنظمة بصفة عامة كان ضرورة ملحة.
من يمتلكون المعرفة قلة، من يستطيعون القراءة والكتابة نادرون، كان من النبل أن يمنح ذوو العلم والمعرفة ما لديهم من بصيرة للآخرين، وأن ينشروا المعروف بما يحقق الخير للجميع.
فالمعرفة ثروة إنسانية تنمو بالمشاركة والتبادل.

 

أما اليوم..
تبدلت الأحوال، تغيرت الظروف، فإننا نرى صورًا من "الأمر بالمعروف" تشوه الفريضة، وتحولها إلى وسيلة للتنفيس عن علل اجتماعية لها أبعادنفسية وذاتية. 
أن يحاول شخص أن يكتسب أهمية ويدس أنفه في حياة الناس بدعوى "الأمر بالمعروف"، فهذا ليس من النبل في شيء. بل هو في كثير من الأحيان نتاج اضطراب ومحض "جليطة ثقافية"  قد تنم عن إحساس بالعجز والفشل،ومحاولة للاستعلاء والشعور بالأهمية.

 

من الفقه أن ندرك أن المعروف ليس حكرًا على تصورات فئة معينة، ولا يقتصر على دائرة ضيقة من السلوكيات الفردية المتعلقة بالمأكل والمشرب والملبس.
إذا ما اختزل المعروف في فرض تصورات شخصية أولجماعة ما ، أو أصبح أداة لفرض قيود متشددة نابعة من اتجاهات مكبوتة ،فإننا نكون أمام حالة اجتماعية مرضية يستخدم فيها النص الديني كحيلة لتغطية إحساس بالنقص والعجز أو الإنكار والإستعلاء بما يتصورون أنه الدين.

 

يقول الإمام الشاطبي في "الموافقات":
"إن المعروف ما عُرِفَ حسنه بالشرع والعقل، وأن المُنكَر ما أنكره الشرع والعقل"
هذا يعني أن المعروف ليس ما يستحسنه كل فرد أو جماعة من تلقاء نفسها، بل هو ما جاء به الشرع وتأيد بالعقل السليم.

 

من الأصول المقررة في الفقه أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من فروض الكفاية، لا من فروض العين في كل حال..


هذا يعني أن الفرض إذا قام به من يكفيه من أفراد المجتمع، سقط الإثم عن الباقين، فرض الكفاية ليس كالصلاة التي تجب على كل فرد بعينه. 
فروض الكفاية ينهض بها من هو أصلح لها وأقدر عليها وأفهم بمقاصدها.

 

العجيب بفضل "الصحوة " التي زيفت إسلاما أن يتوهم الأقل صلاحية والأقل كفاءة والأضيق أفقًا أنهم المكلفون بتقويم المجتمع وتوجيه الناس وفقًا لثقافتهم المحدودة

إن فرض التعليم الإلزامي ونشر المعرفة الصحيحة، هو في حد ذاته من أعظم صور الأمر بالمعروف..

 

فالمعرفة تزيل الجهل، وتنير العقول، وتصقل النفوس..
أما جهود بعض المتطوعين المطوعين التي تتحول إلى تدخل سافر في حياة الآخرين، أو إلى ممارسة للعدوانية باسم الدين، فهي لا تزيد عن كونها "رذالة" لا تليق بمقام الفريضة.

 

يمارسون العدوانية تحت شعار "المعروف"، وهم في حقيقة الأمر يسعون إلى الاستعلاء، ومحاولة لستر عجزهم وقبحهم الداخلي.


هؤلاء الذين يستغلون النص الديني ليُكسبوا أنفسهم أهمية زائفة وإحساسًا وهميًا بالتفوق، يصدمهم قول الناس: "وأنت مالك؟".


هذه الجملة البسيطة تفجر غضبهم وتكشف زيف ادعاءاتهم، لأنها تصطدم بحلمهم في التفوق والاستعلاء على الآخرين، فيكون رد فعلهم عنيفًا وغير متوقع. 
يظنون، لمحدودية عقولهم، أنهم عندما يُشهرون النص الديني (ولو في غير موضعه)، فإن الجميع سيخرسون ويخشعون أمامهم.

 

من سلبيات تطورنا الإنساني المعاصر ما يمكن تسميته "التسامح الزائد مع الفاشلين والعاجزين"، تسامح خدع هؤلاء، توهموا أن لهم الحق في التدخل في شؤون الآخرين، واقتحام المساحات الشخصية متترسين بالنطاعة والرذالة..

 

إن مبدأ المساواة في الإسلام، والذي أقره الفقه الحديث والقوانين المعاصرة، يعني المساواة في الحقوق والواجبات، والمساواة في المسؤولية أمام القانون.
لكنها لا تعني أبدًا المساواة في الأدوار والاستحقاقات. فالمساواة لا تعني أن يدخل سائق "التوك توك" غرفة العمليات ليجري عملية في المخ، أو حتى عملية استئصال لوزتين. 


لكل دوره ومسؤوليته التي تتناسب مع كفاءته وتخصصه.

 

إن إنسانيتنا، ومجتمعاتنا، بحاجة ماسة إلى "أنياب" تضبط الفوضى، وتعيد للمرضي صوابهم، فليس كل من يدعي "الأمر بالمعروف" هو أهل له.

تم نسخ الرابط