محسنة توفيق… من بهيّة الوطن إلى أنيسة القلب: سيدة لم تمثّل، بل كانت تعيش الأدوار وتُعلي القيم

محسنة توفيق
محسنة توفيق

في ذكرى ميلادها، لا نُحيي مجرد اسمٍ في قائمة رموز الفن، بل نستعيد حضور امرأة كانت صوتًا خافتًا يحمل كل ضجيج الوطن، وملامحًا بسيطة تختزن تاريخًا من النبل والمقاومة والصدق.

محسنة توفيق (1939 - 2019)، لم تكن فقط ممثلة قديرة…
كانت امرأة اختارت الأصعب: أن تبقى إنسانة في زمن يتغيّر،
وأن تعيش في الظلّ دون أن تنطفئ، وأن تُنير دون أن تحرق.

 

اسمها لم يكن مجرد مصادفة…
كانت محسنة لأنها أحسنت في كل شيء:
في الفن، في الإنسانية، في اختيار المواقف، في الصمت، وفي الحضور.
وكانت بتوفيق من الله، لأنها ما كانتش بتمثّل… كانت بتعيش،
وكانت بتصدق لدرجة إننا صدقنا إن دي مش ممثلة… دي “ست مننا”

 

“بهية”… صرخة الوطن في جسد امرأة

حين قدّمت دور “بهية” في فيلم العصفور للمخرج يوسف شاهين،
لم تكن تُجسد شخصية خيالية، بل كانت تُنطق صورة المرأة المصرية،
التي تُخيط ثياب ابنتها في الحسين، وتخيط معها الحلم الذي لم يكتمل.
في “بهية”، اختصر يوسف شاهين ملامح الوطن المنكسر والمقاوم،
وأصبحت صرختها في النهاية — “مصر يمة يا بهية” —
هي الصرخة التي خرجت من آلاف الحناجر الصامتة في أعقاب نكسة 1967.

لم تكن “بهية” دورًا…
بل كانت لحظة وعي… لحظة صدق فني تحوّل إلى رمز.


“أنيسة”… الحنان الذي لم يُكتب في السيناريوهات

في مسلسل ليالي الحلمية، عاشت محسنة توفيق شخصية “أنيسة البدري” لسنوات،
امرأة لم تُنجب، لكنها صنعت الأمومة من الاحتواء،
وربّت ابن أختها “علي البدري” (ممدوح عبد العليم) بحنانٍ نادر،
وظلّت ركنًا هادئًا ثابتًا في عالم متغيّر مضطرب.

“أنيسة” لم تكن امرأة هامشية، بل كانت الركيزة الهادئة،
التي يعود إليها البطل كلما أنهكته الحياة.
وكل بيت في مصر كان يرى فيها “الخالة الطيبة”،
التي تفهم من النظرة، وتحب من غير شروط، وتحنو من دون أن تُعلن.


المُحسنة في كل شيء… بأدوارها، وبأخلاقها

بدأت محسنة توفيق مشوارها الفني من المسرح وهي طالبة في كلية الزراعة،
وقدّمت على مدار العقود ما يقرب من 70 عملًا فنيًا في المسرح، والسينما، والتلفزيون، والإذاعة.
ولدت في عائلة فنية وإعلامية: شقيقتها هي أبلة فضيلة، صوت الطفولة الأثير،
وشقيقتها الأخرى يسرا توفيق، مغنية الأوبرا.

تميّزت محسنة بخياراتها الدقيقة، فلم تسعَ للشهرة، بل للصدق،
وكانت تختار أدوارها كما تختار كلماتها: بعناية واحترام لذاتها ولمهنتها.

وقدّمت مع يوسف شاهين ثلاثة من أنضج أفلامه:
العصفور، إسكندرية ليه؟، الوداع يا بونابرت،
كما كانت أحد أعمدة الدراما المصرية في:
الوسية، الشوارع الخلفية، أم كلثوم، المرسى والبحار.


الجوائز تلاحقها… لكنها لا تتباهى

حصلت محسنة توفيق على وسام العلوم والفنون عام 1967 من الرئيس جمال عبد الناصر،
ونالت جائزة الدولة التقديرية عام 2013 عن مجمل أعمالها،
وكان آخر ظهور جماهيري مؤثر لها في مهرجان أسوان السينمائي،
حين بكت تأثرًا وكأنها تودّع جمهورها… وفعلاً، لم يمضِ وقت طويل حتى غادرتنا.

 

امرأة تحوّلت إلى ذاكرة

محسنة توفيق، في كل مرة ظهرت فيها على الشاشة،
لم تكن تزخرف الدور… بل تعريه من التصنع،
تضع فيه من روحها، من صبرها، من سكونها، ومن نارها النبيلة.

في ذكراها، لا نُحيي فنانة، بل نُحيي ضميرًا فنيًا ظل حيًا فينا،
امرأة علّمتنا أن البطولة لا تُقاس بعدد المشاهد،
بل بقوة الأثر… والأثر الذي تركته محسنة لا يُمحى.

رحم الله محسنة توفيق…
التي كانت “بهية” حين صرخت، و”أنيسة” حين احتوت،
و”محسنة” في الحياة كما في الفن… بكل توفيق، وبكل صدق.

تم نسخ الرابط