مايكل جاكسون..لا أحد يُتقن الوحدة كما أتقنها وهو يرقص!

ليس سهلاً أن تكتب عن مايكل جاكسون. ليس لأننا نحتاج إلى كلمات جديدة، بل لأن كل الكلمات تخجل من محاولة الإحاطة بما لم يُشبهه شيء.
مايكل لم يكن شخصًا فقط.
كان صوتًا يمشي، ظلًا يرقص، طفلًا اختبأ في قلب رجل، ورجلًا انكسر كثيرًا لكنه ظل يُهدي العالم نغمًا لا يشكو.
حين يُقال “ملك البوب”، فالمقصود ليس اللقب، بل الإعصار الذي مرّ في موسيقى القرن العشرين وغير مسارها.
مايكل لم يأتِ ليُكمل الموجود.
هو جاء ليبتكر القالب، ويكسره، ثم يبني من رماده معجزة.

كان صبيًا صغيرًا حين صعد إلى المسرح لأول مرة مع إخوته. لم يكن وجهه يوحي بشيء خارق، لكن ما إن غنّى، حتى انحنت الأرواح.
كان فيه شيء غير مرئي، لا في صوته فقط، بل في طريقة نظرته، في كيفية خروجه من جسده حين يرقص، كأنه يتجلى لا يرقص.

حياته كانت فيلمًا طويلًا… لا يخلو من الدهشة، ولا ينجو من الحزن.
في غرف الفنادق الفارهة، في العربات السوداء، في جدران بيته الضخم… كان مايكل يعود إلى وحدته.
الطفل الذي لم يلعب، ظل يركض خلف ما لم يعشه.
ورغم ذلك، لم يُعطِنا يومًا عملًا ناقصًا.
كان مهووسًا بالكمال، بالتفاصيل، بالإضاءة، بالخُطوة التي يجب أن تقع في اللحظة الدقيقة… وإلا فلا داعي لها.
هل نتذكر “Thriller”؟
إنها ليست أغنية، بل فصل كامل من تاريخ الموسيقى.
“Smooth Criminal”، “Billie Jean”، “They Don’t Care About Us”، “Black or White”،
كل أغنية كانت بيانًا…
بيانًا ضد العنصرية، ضد العنف، ضد النسيان، ضد العادي.
أحيانًا لا يكفي أن نقول “مايكل جاكسون”…
لأن الاسم وحده لا يشرح كل شيء.
مايكل لم يكن مجرد مغني أو راقص.
كان حالة، طيفًا، مشروع إنساني وفني هائل،
بدأ من صرخات طفل في فرقة عائلية صغيرة، وانتهى بأسطورة تهزّ الأرض حين تلامس قدماه المسرح.

مايكل كان يعرف أن الفن ليس ترفًا…
بل ضرورة، وسلاح، ولغة يمكن أن تنقذ حياة.
تعال نسمع أغانيه، لا كأننا نعرفها…
بل كأننا نعيد اكتشافها.
“Billie Jean”
ليست فقط قصة عن فتاة، بل عن الخوف من الاتهام، من الأسر، من الشك.
الإيقاع المتواري في الخلف، خطواته المنفصلة عن الجاذبية، الأداء الصارم في تعبيره… كل شيء كان يقول: أنا أرقص على جمرٍ داخلي لا يراه أحد.

“Smooth Criminal”
أغنية تُشبه مطاردة في فيلم سينمائي.
النبض السريع، الانفجارات الصوتية، صوت مايكل وهو يسأل: “Annie, are you OK?” كأن هناك جريمة وقعت في الروح، لا في الشارع.
هو لا يغني فقط، هو يطارد شيئًا مجهولًا.
“Man in the Mirror”
هنا نقترب من قلبه…
مايكل، المهووس بتغيير العالم، يطلب منا أن نبدأ بتغيير أنفسنا.
يقولها بصدق نادر:
“If you wanna make the world a better place… take a look at yourself, and then make a change.”
وكان مؤمنًا بذلك، ليس شعارًا… بل سلوك حياة.

“They Don’t Care About Us”
غضب مايكل هنا ليس غضبًا ناعمًا.
بل عنيف، صارخ، سياسي.
ينتفض على الظلم، العنصرية، القهر.
صور الأغنية صُوِّرت في سجون، وفي شوارع البرازيل، وسط الطبول والعرق والرفض.
مايكل هنا ثائر، لا نجم.
“Earth Song”
صرخة من أجل الأرض، مايكل، الذي عانى من كراهية البشر، حاول أن يُحب الكوكب كله.
صوته في هذه الأغنية يأتي من مكان عميق جدًا… كأنه يبكي نيابة عن الجميع.
“Dirty Diana”
يتحدث عن امرأة تغويه، ولا تمنحه سوى الخطر.
هنا نرى الجانب المظلم من حياته… علاقاته، رغبته في الحب، وهروبه منه.
الأداء فيه طاقة غريبة: بين القوة والانهيار.
بين السيطرة والضياع.

“Black or White”
مايكل الذي تغيّر لون جلده، وهاجمه الجميع،
يأتي هنا ليقول: “It don’t matter if you’re black or white.”
يُذكّر العالم أن جوهر الإنسان لا لون له،
أننا إذا حكمنا بالمظهر، خسرنا كل شيء.
كل أغنية في حياة مايكل كانت مرآة.
بعضها عكس الجانب المضيء: “The Way You Make Me Feel”, “Rock With You”, “Don’t Stop ‘Til You Get Enough” – حيث الرقص، الحب، النشوة، السعادة البريئة.
وبعضها عكس التشقق الداخلي، الوحدة، الصدمة، مثل:
“Childhood” – حيث يصرخ بصوت خافت: “Have you seen my childhood?”
وحتى أغانيه التي بدت خفيفة، كانت محمّلة بالرموز:
“Leave Me Alone” لم تكن أغنية فقط، بل إعلانًا عن الألم من تدخل الصحافة، وانتهاك الخصوصية.
مايكل كان يكتب حياته على هيئة أغنية.
وكان يرقص على جروحه.
وكان يُهدي الكوكب صوته، حتى حين لم يكن يسمع هو نفسه نداءه الداخلي.
حين نُعيد سماع مايكل جاكسون، لا نُعيد سماع الماضي.
بل نُعيد اكتشاف الإنسان: المكسور، الكامل، المُلهِم، الخائف، الجبار، الصامت، المتألم… والعاشق للعالم.

مايكل لم يُمتّعنا فقط.
علّمنا كيف يمكن للفن أن يكون خلاصًا
مايكل لم يكن أبيض. ولم يكن أسود.
لم يكن أمريكيًا تمامًا، ولا عالميًا بالكامل.
كان كل شيء. وكان وحده.
في صمته كان ضجيج.
في عينيه سؤال لم يُجب عليه أحد.
وفي وقفته على المسرح… كان الزمن يتوقف.
هل رأيت إنسانًا يتحول إلى طاقة؟
مايكل كان يفعل ذلك.
حين يركض على الخشبة، حين يُشير بإصبعه، حين يقف دون أن يتحرك لثوانٍ طويلة، والجمهور يبكي دون أن يغني!
لم يكن المشهد يحتاج إلى كلمات.
لقد تجاوز فكرة “الشهرة” بمراحل.
مايكل لم يكن نجمًا فقط… كان كونًا خاصًا، له مداره، وجاذبيته، ولغته.
ورحل…جسده رحل، لكن صوته لا يزال.
خطواته لا تزال تُحاكى.
وكل من غنّى بعده، حمل أثرًا من ظله، من وهجه، من تحدّيه للمعايير.

في ذكرى رحيله، نُعيد تشغيل المقطع.
نرجع إلى الخلف، حيث “The Way You Make Me Feel”،
نرقص كما علّمنا، نحلم كما أرادنا أن نحلم،
ونهمس كما همس ذات مرة: “If you wanna make the world a better place, take a look at yourself, and then make a change.”
وفي حضرة مايكل جاكسون، لا نملك إلا أن نُصغي بقلوب مفتوحة، لندائه الخفي الذي لم يسمعه العالم في وقته.
الأساطير لا تموت…
هي تختبئ في تفاصيلنا اليومية،
في نغمة، في خطوة، في ارتجافة شعور.