ميلاد زهرة.. حكاية العلا التي سكنت وجدان الفن

في مدينة الإسكندرية، وتحديدًا في حي محرم بك، وُلدت طفلة كانت تشبه اسمها… رقيقة، متألقة، وهادئة كنسمة بحر في المساء. أسموها “زهرة العلا”، كأن أهلها كانوا يشعرون بأنها ستُزهِر ذات يوم في أرض بعيدة، أمام عدسات تُسجل الحلم وتُخلِّد الوجوه.
لم تكن الحياة سهلة، لكن شيئًا في داخلها كان يُناديها نحو الفن، نحو ذاك العالم الذي تُروى فيه الحكايات، وتُقال فيه المشاعر التي لا يبوح بها الناس. درست التمثيل، ومشت طريقها خطوة بخطوة، دون صخب… حتى ظهرت لأول مرة، فلم ينسَ الناس عينيها، ذلك الحزن النبيل الذي يسكن ملامحها.
ثم بدأت أفلامها تتوالى، “أيامنا الحلوة”، “رد قلبي”، “دعاء الكروان”، “سواق الأتوبيس”… أسماء لمجرّد سماعها يعود صوت الأبيض والأسود إلى القلب. كانت تقف أمام عمالقة مثل عبد الحليم، عمر الشريف، فاتن حمامة، وتحفظ لنفسها مكانًا لا يُشبه أحدًا سواها. لا تصرخ في أدائها، لا تبالغ، فقط تصدق، وتُشبه النساء اللواتي نعرفهن في البيوت، في الشرفات، في الوداعات الخافتة.
في حياتها، كان هناك حب، ووجع، وقرارات حاسمة. تزوّجت أكثر من مرة، لكن زواجها الأطول والأهدأ كان من المخرج حسن الصيفي، الذي عاشت معه أكثر من ٤٥ عامًا، وأنجبت منه ابنتين، إحداهما المخرجة منال الصيفي. وفي زواج آخر، رفض أحد الأزواج عملها في الفن، فاختارت الفن وتركته… كانت تعرف مقامها، ولا تقبل أن يُطفأ نورها عنوة.
لكن مع الزمن، وبعد رحلتها الطويلة، حدث التحوّل الصامت. ذهبت إلى الحج في أواخر التسعينيات، وعادت إنسانة أخرى. اعتزلت فجأة، دون كلمات وداع، واختارت أن تُغلق ستارة المسرح بنفسها… كأنها شعرت أن الحكاية اكتملت.
رحلت زهرة العلا عام 2013، بعد صراع مع المرض، في هدوءٍ يشبه حضورها… لكن وجهها لا يزال يسكن في ذاكرة الأجيال، في صورة الفتاة التي تُحب برقة، الأم التي تتألّم بكرامة، والمرأة التي تترك أثرًا دون أن تطلبه.
زهرة العلا لم تكن فقط فنانة… كانت حكاية.
وحكايتها، مثل كل الحكايات الصادقة، لا تنتهي.