في ذكرى الضاحك الباكي… نجيب الريحاني الذي علّمنا أن الحزن يضحك أحيانًا!

نجيب الريحاني
نجيب الريحاني

في زقاق صغير من حواري باب الشعرية، وُلد طفل اسمه نجيب إلياس ريحانة. لم يكن أحد ليتنبأ له بمستقبل مختلف، ولا أن هذا الولد، الذي يركض بين الجدران القديمة، سيغيّر شكل الضحك في مصر… ويمنحه ملامح إنسانية لم نعرفها من قبل.

كان والده تاجر خيل من أصل عراقي، ووالدته مصرية من قلب القاهرة. كبر نجيب وسط البسطاء، يسمع ضحكاتهم المكسورة، ويفهم الوجع حين يُقال بهزار. عايش الشارع المصري بلحمه ودمه، وكان قلبه يخزن المشاهد، ليحوّلها فيما بعد إلى مسرح نابض بالحياة.

انقطع عن التعليم بعد حصوله على البكالوريا، لا لأنه أراد ذلك، بل لأن الحياة ضاقت. عمل في شركة لقصب السكر في الصعيد، وهناك، وسط رائحة الأرض والنيل، بدأت الحكاية. كان الحلم يتسلل إليه خلسة، كما تتسلل الضحكة إلى وجه متعب.

 

البداية الحقيقية… والبوابة الصغيرة التي دخل منها

عاد إلى القاهرة، وراح يبحث عن مكان بين الممثلين، بين الموهوبين، بين أولئك الذين كانت وجوههم تملأ المسارح. لم يكن الطريق ممهّدًا، لكنه لم يتراجع. وكان لقاؤه ببديع خيري نقطة التحوّل. كتب بديع، ومثّل نجيب، وانطلقت فرقة الريحاني، تحمل همّ الناس، وتضحكهم بصدق، وتواسيهم دون أن تتكلّم عن الوجع صراحة.

من “كشكش بيه” إلى “سي عمر” و”أبو حلموس”، ابتكر نجيب شخصيات تقترب من الناس كأنهم يعرفونها شخصيًا. شخصيات بسيطة، طيبة، تُخدع وتُحب وتتعلم. كان يضحكهم، لكنه وحده يعرف أن الضحك الحقيقي لا يُخلق إلا من رحم الألم.

 

حياته الخاصة… قلبٌ مزدحم ومُتعب

تزوّج نجيب من الراقصة بديعة مصابني، لكن زواجهما لم يدم. ثم أحب سيدة ألمانية تُدعى لوسي دي فرناي، وأنجب منها ابنته الوحيدة “جينا”. لم يكن أبًا تقليديًا، ولا زوجًا حاضرًا باستمرار، فالمسرح كان حبيبته الأبدية، التي أخذته من كل شيء… حتى من نفسه.

 

السينما… والمشهد الأخير

دخل نجيب الريحاني السينما وهو يحمل خبرة المسرح وثقله الإنساني. لم يكن نجمًا عاديًا، بل روحًا تسكن الكاميرا. قدم أفلامًا ما زالت تُعرض، وما زالت تضحكنا، وتُبكينا.

في فيلم “غزل البنات”، وقف صامتًا أمام عبد الوهاب وهو يغني “عاشق الروح”. كانت نظرته في هذا المشهد تختصر حياته كلها. نظرة عاشق، أنهكه الانتظار، لكنه ما زال يحب.

توفي نجيب الريحاني قبل عرض الفيلم، ورحل دون أن يرى كم أحبّه الناس. لكن ربما لم يكن بحاجة إلى أن يرى… لأنه عاش ليفهم، لا ليتفرّج.

 

الذكرى لا تموت

في كل مرة نضحك فيها من مشهد له، ونصمت بعدها دون أن ندري لماذا… نكون قد اقتربنا من حقيقته. نجيب الريحاني لم يكن مجرد “فنان”، بل كان مرآة لجيل، وصوتًا للوجع الضاحك، وصديقًا مجهولًا لكل من ذاق الفقد، واحتاج ضحكة فيها دفء.

“أنا أحب الضحك، لكني أبكي كثيرًا حين أكون وحدي.”
قالها، ومضى.
لكننا ما زلنا هنا، نردّدها كل عام في ذكرى رحيله…
رحيل الضاحك الباكي.

تم نسخ الرابط