محمود ياسين.. حين يختلط الفن بالوقار ويصبح الصوت سيرة

محمود ياسين
محمود ياسين

في الثاني من يونيو، لا نُحيي ذكرى ميلاد فنان عابر، بل نفتح أبواب الذاكرة على مصراعيها لاستقبال رجل من زمن الكبار، محمود ياسين… فتى الشاشة الأول، صاحب الصوت الوقور الذي يفرض احترامه قبل أن يُنهي الجملة، وممثل لم يكن يؤدي الدور، بل يُقيم فيه.

ولد في بورسعيد، تلك المدينة الشاهدة على النضال، وكأنه جاء من البداية محمّلًا بروح البطولة. لم تكن رحلته إلى الفن مفروشة بالضوء، بل كان عليه أن يُغالب الواقع، ويُحاور القدر، حتى صار اسمه مرادفًا للفن الرفيع.

كان محمود ياسين صوتًا نقيًا وسط ضجيج الأدوار، بصوته وحده كان يستطيع أن يبني مشهدًا، ويمنح العبارة حياة، وكأن اللغة لا تُولد إلا حين ينطقها هو. كان إذا تحدّث، سكنت الشاشة، وانتبهت الكاميرا، وارتفعت القلوب.

في السبعينيات، لم يكن نجمًا فقط، بل كان رمزًا للرجل الحالم، الحازم، الرومانسي، والوطني. جسّد الجندي، والطبيب، والعاشق، والمثقف، وجعلنا نؤمن أن التمثيل حين يخرج من عقل كبير وقلب صادق، يمكن أن يغيّر مفاهيم جيل بأكمله.

في “الرصاصة لا تزال في جيبي”، كان وجه الجندي المصري بعد النصر، وفي “أغنية على الممر” كان الإنسان وسط لهيب المعركة.
وفي “الخيط الرفيع” مع فاتن حمامة، و*“نحن لا نزرع الشوك”* مع شادية، و*“اذكريني”* مع نجلاء فتحي، كان صوت الحب الجريح الذي لا يفقد كرامته.
وفي “أنف وثلاث عيون”، و”الباطنية”، و”قاع المدينة”، و”الجلسة سرية”، تنقّل بين الانفعالات والطبقات والأزمنة، محافظًا على هدوئه وسط العاصفة.

المسرح كان بيته الأول، ووقف عليه في روائع مثل “ليلى والمجنون”، و”الزير سالم”، و”وطني عكا”، منسجمًا مع لغة الشعر والوقار التاريخي.
أما في الدراما، فقد سكن وجدان البيوت المصرية بمسلسلات مثل “العصيان”، و”أبو حنيفة النعمان”، و”سوق العصر”، و”ماما في القسم”، "اللقاء التاني"، و”الدوامة”.

حتى مع تقدّمه في العمر، ظل وفيًّا للفن، وشارك في أعمال حديثة مثل “الجزيرة” مع أحمد السقا، و*“الوعد”* مع آسر ياسين، و*“جدو حبيبي”، و“عزبة آدم”*، مؤكدًا أن البصمة لا عمر لها.

في ذكرى ميلاده، لا نُعيد فقط أرشفة أعماله، بل نُعيد التذكير بما تعنيه الكلمات حين تُقال بصوته، وبما تعنيه البطولة حين تُجسّد بشرف، وبما تعنيه الهيبة حين تولد من الاحترام، لا من الصخب

المسرح كان بيته الأول، والدراما سكنته. وحتى في آخر سنواته، حين خفّ الظهور، لم يخفت الحضور. بقيت نبرته تفتح في القلب نوافذ قديمة، وتضيء الذكريات.

في ذكرى ميلاده، لا نُعيد فقط أرشفة أعماله، بل نُعيد التذكير بما تعنيه الكلمات حين تُقال بصوته، وبما تعنيه البطولة حين تُجسّد بشرف، وبما تعنيه الهيبة حين تولد من الاحترام، لا من الصخب.


الحب الوحيد”.. والدور الأصدق في حياة محمود ياسين

بعيدًا عن الأضواء، وفي كواليس الحياة، عاش محمود ياسين قصة حب واحدة ووحيدة، كانت أشبه بفيلم كلاسيكي من أفلامه الرومانسية التي صدّقناها… لكنه هذه المرة، لم يكن يمثل.

التقى شهيرة، الفنانة الشابة آنذاك، فوقع في حبها من النظرة الأولى. لم يتردد، ولم يضع الحب في اختبارات المنطق، بل تقدم لخطبتها مباشرة، مؤمنًا أن القلب حين يصدق، لا يحتاج إلى بروفات.
تزوجا عام 1970، ومنذ ذلك اليوم وحتى وفاته، لم تُذكر حياته دون أن يُذكر اسمها.

كانا ثنائيًا فنيًا وإنسانيًا نادرًا، يختلط فيه العمل بالمحبة، والشهرة بالاحتواء.
وعلى مدار أكثر من 50 عامًا، لم يسمع أحد عنهما إلا كل ما يدعو للتقدير، والعائلة، والسكينة.

محمود ياسين لم يكن زوجًا فقط، بل كان صديقًا، وظهرًا، وشريك حياة بمعنى الكلمة.
وفي إحدى لقاءاتها، قالت شهيرة: “كان حنونًا إلى أبعد حد، وكان يعتبر الحب التزامًا، لا مجرد مشاعر عابرة.”

رزقهما الله بـ”رانيا” و”عمرو”، اللذَين دخلا أيضًا إلى مجال الفن، لكن بقيت القيم التي زرعها والدهما في البيت هي البطولة الحقيقية.

في زمن كثرت فيه القصص المؤقتة، كانت قصة محمود ياسين وشهيرة بطولة مستمرة خارج الشاشة، ودورًا لم ينتهِ أبدًا بمشهد النهاية.

حتى حين اشتد عليه المرض، كانت هي جواره، تسانده بصمت، وتحمي تاريخه، وتحترم خصوصيته.
ورحل محمود ياسين، لكن ما زال الحب الذي جمعهما يُروى كأحد أصدق أدواره على الإطلاق… دور لم يُكتب له سيناريو، بل كُتب بالقلب.

محمود ياسين لم يكن مجرد نجم.
كان حالة إنسانية وفنية نادرة، مزيجًا من التواضع والشموخ، رجلًا له طلّة، وصوت، وتاريخ..
ورغم الغياب، ما زال حضوره قائماً في مشهد سينمائي نعيد مشاهدته، أو جملة درامية نحفظها، أو لحظة وطنية اقترنت بوجهه وصوته.

كل سنة وأنت في وجداننا يا محمود ياسين..
يا من يشبهك زمن لم يَعُد، وصوت لا يتكرر.

تم نسخ الرابط