"المادة غلبت المودة".. عندما تجتمع الواقعية والابداع والحرفنة داخل "شنطة سفر"

"زمن المودة عدى والمادة غلبت المودة" تلك هي العبارة التي رددها بطل العمل الفنان أحمد صيام، لتلخص أحداث نراها كل يوم بين المعارف، ومن الممكن أن تكون في بيتنا من الأساس، وهي حكاية "شنطة سفر" ضمن مسلسل "ورا كل باب"، حيث تناقش الحكاية فكرة أن يكون الأب "محفظة" كما عبر أبطال العمل، يتغرب في الخليج ليصرف على بيته وأولاده، ويوفر لهم وسائل الراحة والرفاهية، فيتحول بمرور الزمن إلى ماكينة فلوس، لا يحمل أولاده له أي مشاعر، كما تقسو عليه زوجته التي تجسد دورها دينا، بسبب أنه تركها وحيدة لتربية بناتها لمدة ٢٥ سنة، ولا يعود لمصر سوى مرة كل ٥ سنوات ليشتري أرضاً أو يشارك في مشروع، أي شيء لمصلحته، ولم يفكر في توطيد علاقته مع أولاده.

عندما تفتح "شنطة سفر" تجد داخلها اللوازم الفنية الابداعية كاملة مكتملة الأركان، فتجد الواقعية لدرجة أنك تتحدث لأفراد وتقول لهم كيف يتصرفوا، ويرجع ذلك لاكتمال أركان العمل التي تجذب المشاهد وهي صورة مبهرة وحوار شيق يتسم بالعمق وأداء متمكن من فنانين أقوياء، وقد توفر الثلاثة ببراعة جعلت الحكاية تنتقل من عين إلى قلب المشاهد وحواسه، فجعلته يندمج معها ويتفاعل حتى النهاية.

لعب الحوار دوراً محورياً في نجاح الأحداث، حيث ترجم السيناريست محمد الشواف فكرة يسري الفخراني لحوار عبقري، مزج بين فلسفة العامة والدم الخفيف الساخر المعروف عندنا في مصر، ودقة وصف أبسط وأصغر التفاصيل والمشاعر، فقد عبر جيداً عن القصة بالرمزية، فنجده وصف الحكاية في مشهد يتحدث فيه صديق أحمد صيام عن الشجرة التي زرعها صيام وكان مهتماً بها قبل أن يسافر، وبعد سفره يقول له أنهم سقوها ماء أكثر من اللازم فمات زرعها، في اشارة منه لأولاد صيام الذي لم يكن يهتم بهم ويزيدهم بالأموال فقط فماتت مشاعرهم تجاهه.
ودعم هذا السيناريو وجود كادرات مختلفة ومعبرة، من المخرج المتميز محمد بكير، وخاصة المشهد التي تقوم فيه الفنانة دينا بإزاحة صورة زوجها أحمد صيام المعلقة على الحائط وسط صور العائلة، لتضع بدلاً منها مرآة، ليوضح لنا أنها لم تعد ترى إلا نفسها، فقد وهذا مثالاً ضمن كادرات أخرى عظيمة، جعلت أداء الفنانين يظهر بالقوة التي يمثلون بها، وأكثر ما ميزها هو الاهتمام بالتفاصيل البسيطة والصغيرة لنعيش مع الحكاية.

أما بالنسبة للفنانين، فقد أبدع كلاً منهما في دوره، من أصغر دور لأكبر دور، تشعر معهم وكأن الحكاية حقيقية، ونتحدث عن كل فنان منهما في بشيء من التفصيل:

دينا
برعت الفنانة دينا في تجسيد شخصية "هدى" الزوجة، فكانت صعبة وملئية بالتفاصيل، هي ليس فقط زوجة شريرة استولت على مال زوجها في الغربة، فهي زوجة مقهورة تشعر بمرارة الوحدة وقساوتها رغم أن زوجها على قيد الحياة ولكنه تركها من أجل المال، فتحولت هي الأخرى إلى شخص مادي لا يتفاهم إلا بالفلوس، وقد أوصلت دينا هذا الاحساس للمشاهد بشكل عبقري، فجعلته في حيرة من أمره هل يتعاطف معها ويلتمس لها العذر، أم يكرهها لكونها أخذت فلوس زوجها وتسببت في مرضه.

وحيرة المشاهد بهذا الشكل لا يتسبب فيها إلا ممثل يعرف كيف يستخدم أدواته جيداً، فدينا حتى دون أن تتحدث يمكنك أن تستشعر المرارة في عينها والجحود أحياناً من كثرة ما رأته من قسوة الحياة ومسئولية كبيرة على عاتقها دون أن يقاسمها فيها زوجها، بل كان لها بمثابة "البنك"، وأثبتت دينا في هذا المسلسل أنها ممثلة من العيار الثقيل، فلم يشعر معها أحد لثانية واحدة أنها تمثل، بل أقنعت الجميع أنها "هدى" التي تعلمت القسوة من كثرة الخذلان.

وهذا ليس غريباً على الفنانة دينا فهي دائماً ما تكون متمكنة من أي دور تجسده، فاختياراتها دائماً ما تكون قوية ومناسبة لها.

أحمد صيام
عندما يجتمع الأداء المتمكن مع خبرة سنوات كثيرة، ينتج لنا ممثل بحجم أحمد صيام، فقد جسد شخصيته بتمكن قوي كعادته في أي دور، فيظهر جلياً أنه ذاكر شخصيته جيداً وتعب عليها كي يظهر لنا بهذا القدر من الواقعية.

جسد "صيام" دور الاب والزوج "فتحي" الذي يعمل كممرض، لكنه "حِرك" يعرف "من أين تؤكل الكتف"، فيستطيع أن يجلب الفلوس دائماً، ولكن لكثرة حبه في زيادة المال، أحب أن يسافر كي يستزيد منه، فبعد أن قال أنهم سنتان فقط، امتد لـ ٢٥ عاماً لحبه للمال، وكان يأتي لأولاده كل ٥ سنوات مرة.

وبالرغم من أنه لم يكن يتحدث كثيراً في الدور، إلا أن المشاهد استشعر من نظراته وعينه كل ما يريد قوله، وموافقته في الأساس على أنه لا يتحدث كثيراً يدل على ممثل قوي واثق من امكانياته وقدراته التمثيلية.

منة عرفة 
استطاعت منة عرفة أن تجسد دور الابن التي تشعر بالاحتياج الشديد لوالدها حتى أنها تحب الدكتور لديها في الجامعة وتتفقمعه على الزواج منه، وعندما تعبر له عن إعجابها، تتغزل بشعره الأبيض وتناديه بـ"بابا"، فهو بالطبع ليس حباً، بل احتياج لمشاعر الأبوة والبنوة التي حُرمت منها.

اثبتت منة عرفة قدراتها التمثيلية في هذا الدور بقوة، فعندما تراها في مشهد تعبر فيه لوالدها عن حبها وطلبها بألا يتركها وبكائها الشديد، تشعر وكأنك تريد البكاء معها، وأنها بالفعل ابنته.

ياسر علي ماهر
رمانة المسلسل التي توزنه، فهو والد دينا، الرجل الطيب الذي لا يرضى عما تفعله ابنته من شر، وجوده بالمسلسل يقول أن الدنيا لازالت بخير، وأحدث توازن على مدار الحلقات.

تمكن كبير رأيناه في دور الجد الذي لعبه "ياسر"، فهو حافظ على بيت ابنته وساعدها في تربية أولادها، ولكن عندما أتى رب البيت رأى أنه من الصحيح قراره بعدم السفر مرة أخرى، وانسحب هو من البيت كي يجبر ابنته على ألا يسافر زوجها، فجسد دور الحق والمساند للبطل بكل براعة.

مها سلامة وتسنيم طه
الفنانة الشابة مها سلامة، استطاعت أن تكون المثال الحي لمثل "اقلب القدرة على فمها تطلع البت لأمها"، فكانت هي الابنة المادية التي تشبه والدتها كثيراً، تفكر في الأموال وتهتم بها، وحتى أنها قالت بشكل واضح أن الذي بينها وبين والدها مجرد فلوس.

استطاعت مها أن تجسد الدور بشكل جيد جداً، فهي فنانة شابة موهوبة، وغالباً ما سيكون أدائها في هذه نقطة للمزيد من النجاح والأدوار الأخرى.

أما الطفلة تسنيم طه، فقد تمكنت من أداء دور الابنة الصغرى التي تخاف من والدها وتشعر أنها لا تعرفه، بل أنها تنادي جدها بـ"بابا"، رغم رفضه ذلك، إلا أنها تشعر أنها ليس لها أباً غيره لأنه هو الموجود دائماً بالبيت.