رأس السنة الهجرية… حين يهجر القلب ما اعتاد، ويهاجر الروح نحو مقام اليقين

وشوشة

ملحمة الروح بين مكة والمدينة… وبين الخوف والفتح.

ليست الهجرةُ سَفرًا من مكانٍ إلى آخر…

بل خُطوة تُنقّي القلب من خوفه،

وتخلع عن الروح ثياب التعلّق الزائف.

ليست الهجرة ذكرى… بل نداءٌ يتردّد في الزمن،

لمن أرهقهم السكون، وأتعبهم البقاء في أرضٍ لا تُشبههم.


 في مثل هذه الأيام، لم يكن الحبيب ﷺ يهرب…

بل كان يفتح دربًا لِمَن سيأتون بعده،

يعلّمهم أن النجاة لا تكون إلا بالصدق،

وأن الطريق الذي يُتبع فيه النور،

لا يُطفئه ظلامٌ ولا يُعطّله ليل.

خرج من مكة، لا ظهر له إلا الله، ولا سلاح له إلا صدق النية.

وفي الغار، حين ضاق المكان واتّسعت المخاوف، قالها مطمئنًا:

ما ظنّك باثنين، الله ثالثهما؟

 

فما الغار إلا رحمُ الخلوة،

وما الخوف إلا امتحان الثقة،

وما الهجرة إلا إعلان داخلي:

أن البقاء في المألوف موتٌ بطيء،

وأن المُضيّ في المجهول مع الله… حياة.

 

حين تبكي الأرض من خطى الحبيب… وتمضي

 

غادر الحبيب ﷺ مكة، لا قلبه غادر.

قال: والله إنكِ لأحب أرض الله إليّ، ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت.”

فبكت الأرض، وبكت الحجارة، وصمتت الأصوات التي طالما ردّدت الأذان.

 

ومن غار ثور… إلى المدينة المنورة،

كان الطريق طريقًا في الجسد،

لكن الروح كانت تعبر من الخوف إلى اليقين.


 

رأس السنة الهجرية ليست رقمًا جديدًا في التقويم،

بل موسمٌ للنفوس التي ضاقت بظلالها وتشتاق للفجر.

هي دعوة خفية لكل من ضلّ الطريق… أن يُعيد البوصلة نحو الحق،

أن يُهاجر من وهم القوة إلى عين التوكل،

من ضجيج النفس إلى سكينة التسليم.


 

المدينة… حين يسكن السُكُون في القلب


 كان يُحب مكة…

بجبالها، ببيوتها، بأهلها… بذكريات الطفولة ومواضع الوحي.

لكنه خرج.

 

خرج منها وهو يُحبها،

وقلبه يتلفّت نحوها،

لأنه يعلم أن الله أراد أن يكون الفتح هناك… لا هنا.


 

الهجرة ليست هروبًا من الحب،

بل اختيارٌ أصعب:

أن تُغادر ما تهواه لتفتح طريقًا لمن تحب.

أن تقول للحنين: اصبر قليلاً، ففي الطرف الآخر معنى لا يُبنى إلا بالمفارقة.”

 

وحين دخل المدينة…

لم يكن الهواء نفسه،

لكنه صار أكثر طُهرًا.

ولا كان الناس هم الناس،

لكن فيهم من نَصَر، وفيهم من آوى، وفيهم من فَهم.


 المدينة لم تكن الأجمل،

لكنها صارت “المنوّرة” بدخوله ﷺ.

كل شيء فيها تغيّر من لحظة وصوله…

صار النسيم هادئًا…

صار الضجيج سَكينة…

وصار الطريق، وإن طَال، أقرب.


 

ومن يومها، صارت المدينة ملجأ كل من تاه…

كل من أوجعته الدنيا…

كل من ضاقت عليه الأرض بما رحبت…

حتى صار يُقال عن سَكَنها:

“لا يُوجع القلب فيها شيء.”


 حين يكون الهجر هو الباب


 الهجر مؤلم…

لا أحد يُغادر حبيبه طواعية،

ولا يُبعد قلبه عن مكانٍ سكنه إلا وداخله كسر لا يُرى.

 

لكن بعض الهجران…هو عين القُرب.

أن تُفارق مكانًا تحبّه،

لأن في غيره نداء… ومقام… ورسالة.

أن تترك الأحبّاء،

لا لأنك نسيتهم،

بل لأنك صدّقت أن ما ينتظرك أكبر منك ومنهم…

وأنك حين تعود، ستعود ومعك النور.

 

هذا ما فعله النبي ﷺ…

ترك قلبه هناك،

ومشى برجليه إلى ما اختاره الله له،

فأعطاه الله المدينة، ثم أعاده إلى مكة فاتحًا.

 

الهجرة لا تُنسيك من تُحب،

لكنها تُريك كيف يُمكن للحب أن يكبر… أن يتحوّل إلى فتح.

كلما ضاقت عليك،

تذكّر أنه قد يكون وقت “هجرة”…

هجرة من الشيء المحبوب إلى الشيء المقصود.

وأنك حين تمشي في طريق الله،

فالله لا يتركك وحدك…

بل يفتح لك،

ويجبرك،

ويعيدك… لكن بشكلٍ أبهى، وروحٍ أقوى، وقلبٍ أوعى.


 

الهجرة… ليست في التاريخ فقط 

 

كل من ضاقت عليه الدنيا…

ووقف عند باب الله وقال: افتح لي

فهو مهاجر.


 من وجعٍ عالق،

من خوفٍ طويل،

من حزنٍ بلا اسم،

من حياةٍ تُطفئه، وهو يستحق النور…


 

من قرر أن يُهاجر إلى الله، لا إلى أي أحد سواه…

فهو من كتب الله له فتحًا لن تراه العيون،

لكن ستعرفه روحه… حين تهدأ.


 في رأس السنة الهجرية… اسأل قلبك:


 

• ما الذي يُطفئك، وقد آن أن تهجره؟

• ما الذي يُثقل ظهرك، وقد أذِن الله لك أن تتركه؟

• ما الذي يُشبهك في المدينة، وأنت ما زلت في مكة قلبك؟

• ما الذي ينتظرك إن هاجرت حقًّا إلى الله، لا إلى أحد سواه؟


 

دعاء المهاجرين:
 

اللهم إن كتبتَ لي هجرةً،

فلا تجعلها خذلانًا لما مضى،

بل بدايةً لما يُرضيك.

اجعلني أُهاجر من كل ما يُطفئني،

إلى كل ما ينيرني بك.

وبلّغني مدينةً،

فيها أنت،

فيها النور.”

تم نسخ الرابط