سبب منع عرضه ورفض أحمد مظهر له.. أسرار"الكرنك" في ثالث حكايات"السينما بتحكي تاريخ"

في ظل الحنين المتزايد لدى الجمهور لأفلام الزمن الجميل، واهتمامه المتصاعد بالأعمال الفنية التي تجسد وقائع تاريخية كبرى من ذاكرة مصر والعالم العربي، تظل السينما أحد أبرز أدوات التوثيق الفني التي تحفظ البطولات وتخلد الشخصيات المؤثرة، من خلال رؤية درامية تجمع بين الإبداع والواقع، وتمنح التاريخ حياة جديدة على الشاشة.
وفي هذا الإطار، أطلق "وشوشة"مبادرة فنية جديدة تعرض بشكل أسبوعي، وتهدف إلى تسليط الضوء على أبرز الأفلام المصرية المستوحاة من أحداث حقيقية صنعت الفارق في الوعي الجمعي، ونقلت قصصاً من كتب التاريخ إلى شاشات السينما.
وفي الحكاية الثالثة من السلسلة، نعود إلى واحد من أكثر الأفلام جرأة وتأثيراً في تاريخ السينما المصرية فيلم "الكرنك"، الذي لم يكن مجرد عمل درامي مأخوذ عن قصة قصيرة للأديب العالمي نجيب محفوظ، بل كان وثيقة إدانة قوية لفترة مليئة بالقمع السياسي، وصرخة ضد الاستبداد الفكري والأمني الذي عاشه جيل كامل، الفيلم الذي صدر عام 1975 في مثل هذا التوقيت، أثار جدلاً واسعاً منذ لحظة عرضه، وشهد كواليس نادرة مليئة بالرفض والتحديات والصراعات، بدءًا من أبطاله وصولاً إلى الدولة نفسها.
"الكرنك" الذي اختير لاحقاً ضمن قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية، يتناول قصة مجموعة من طلاب الجامعة يعتقلون تعسفاً دون جريمة حقيقية، فقط لأنهم يترددون على مقهى "الكرنك"، المعروف بتجمع المثقفين وأصحاب الفكر الحر في المعتقل، يخضع الشباب لأبشع وسائل التعذيب، ويتم إجبار بعضهم على الاعتراف بجرائم لم يرتكبوها، فيما يجبر آخرون على التحول إلى جواسيس يعملون لصالح أجهزة الأمن داخل الجامعة، يكتبون تقارير عن زملائهم وأساتذتهم.
ينتهي الفيلم بقيام "ثورة التصحيح" في بداية عهد الرئيس أنور السادات، حيث يفرج عن المعتقلين السياسيين، وتتحول الدوائر، إذ يدخل الضابط الكبير الذي كان يصدر أوامر التعذيب إلى المعتقل نفسه.
الفكرة لم تأتي من فراغ، بل كما روى نجيب محفوظ في "أصداء السيرة الذاتية"، فقد ولدت عندما كان يجلس على مقهى ريش، يستمع إلى حكايات أصدقائه المعتقلين عن التعذيب الذي تعرضوا له تأثر محفوظ بالقصص، وقرر توثيقها بقلمه، خاصة بعد لقائه باللواء حمزة بسيوني، مدير السجن الحربي، الذي فاجأه بملامحه الهادئة غير المتوافقة مع سمعته القاسية، فأدرك أن المسألة أكثر تعقيداً مما يبدو، وكتب "الكرنك" من هذا المنطلق الإنساني والسياسي المعقد.
شارك في بطولة الفيلم أكثر من أربعين فناناً ما بين نجوم الصف الأول ووجوه شابة كانت في بداياتها، مثل سعاد حسني، كمال الشناوي، نور الشريف، فريد شوقي، محمد صبحي، تحية كاريوكا، يونس شلبي، شويكار، عماد حمدي، صلاح ذو الفقار، حسن حسني، مصطفى متولي، عبد العزيز مخيون، وأحمد بدير كتب السيناريو والحوار ممدوح الليثي وأخرجه علي بدرخان.
ورغم حجم الأسماء، فإن الفيلم واجه عقبات منذ بدايته، فقد تم عرض دور "خالد صفوان"، الشخصية الأمنية الفاسدة، على الفنان أحمد مظهر، الذي كان في أوج نجوميته، لكنه رفض تماماً، مبرراً ذلك بعدم قبوله تجسيد شخصية تعادي صديق عمره ورفيق كفاحه جمال عبد الناصر، واعتبر أن الدور خيانة لذكراه، فتم إسناد الدور لكمال الشناوي.
أما دور "إسماعيل"، الطالب اليساري، فقد عرض في البداية على الفنان أحمد زكي، لكنه رفض من قبل الإنتاج بحجة أنه "لا يصلح" لحب سعاد حسني شكلياً، فكان القرار لصالح نور الشريف، تلك اللحظة كانت صدمة كبيرة لأحمد زكي الذي اعتبرها جرحاً كبيراً في بدايته الفنية، لكنه أصر على الاستمرار حتى يصبح نجماً، وهو ما حدث بالفعل وقد عوضته سعاد حسني لاحقاً بمشاركته أمامها في "شفيقة ومتولي"، تقديراً لموهبته.
أما المخرج علي بدرخان، فيروي كيف هاتف نجيب محفوظ بعد أن قرأ القصة منشورة في الأهرام، ليطلب تحويلها إلى فيلم، لكن محفوظ أخبره أن ممدوح الليثي اشترى حقوقها للتو، تواصل بدرخان مع الليثي وعرض عليه إخراج الفيلم، فوافق، ثم جاءت المفارقة الغريبة: بدرخان نفسه تم اعتقاله لمدة أسبوعين، وهو ما منحه فرصة نادرة للاقتراب من أجواء المعتقل وتجسيدها لاحقاً بواقعية مذهلة في الفيلم، الذي تم تصويره خلال ستة أسابيع فقط.
وعند عرض الفيلم، اشتعل الجدل، واعتبر النقاد أن محفوظ قصد بشخصية خالد صفوان رجل المخابرات الشهير صلاح نصر، والذي لاحقاً رفع دعوى قضائية ضد الفيلم مطالباً بمنع عرضه، بدعوى أنه يسيء إليه المحاكم رفضت الدعوى، ولكن الضغط لم يتوقف.
في تلك اللحظة، ظهر وزير الثقافة والإعلام يوسف السباعي الذي أصدر قراراً بمنع عرض الفيلم، وطالب بحذف شخصية "حلمي" التي جسدها محمد صبحي، باعتبارها تمثل الفكر اليساري بوضوح، لكن منتج الفيلم ممدوح الليثي لم يصمت، وطلب لقاء مباشر مع الرئيس السادات الذي أمر بعرض الفيلم كاملاً دون حذف، وأرسل رسالة رسمية لوزارة الثقافة يأمر فيها بتنفيذه.
تضمنت المفاوضات تعديلات بسيطة، من بينها استبدال مشهد الإفراج عن المعتقلين من قرار صادر عن عبد الناصر، إلى قرار صادر عن السادات، باعتباره رئيس الجمهورية وقت عرض الفيلم بعدها انطلقت ضجة كبيرة، وصار فيلم "الكرنك" حديث الصحافة المحلية والعالمية.
لاحقاً، في مفارقة لافتة، نظمت وزارة الثقافة عام 1977 مسابقة لاختيار أفضل الأفلام المصرية، وفاز "الكرنك" بجوائز أفضل إنتاج، وأفضل سيناريو، وأفضل حوار، ليتسلم الجوائز بنفسه وزير الثقافة وقتها يوسف السباعي، الذي كان قد حاول منع عرض الفيلم منذ عامين فقط.