في ذكرى سيدة الصفحة الأولى… "عدد تخيلي" من المجلة التي بدأت باسمها (روز اليوسف…)

روز اليوسف
روز اليوسف

روزاليوسف… سيدة صنعت اسمها بالحبر والجرأة..

في زمن كانت فيه النساء بالكاد يُسمَعن،
خرج صوتٌ ناعم لكنه ثابت،
امرأة لم تُولد وفي يدها ورقة،
بل وُلدت تحمل سؤالًا: “لماذا لا أكون؟”

روزاليوسف… لم تكن صحفية فقط،
بل كانت ثورة تمشي على قدمين.

سيدة الصحافة التي كتبت عمرها سطرًا بعد سطر، وصنعت من الحبر بيتًا للكلمة، ومن الحرف طريقًا للتاريخ..

حياتها لم تكن سيرة، بل مشهد طويل من النضال الصامت حينًا، والناطق دائمًا.
كل تفصيلة فيها كانت مشروعًا: من اسمها الذي اختارته، إلى المجلة التي بنتها،
إلى إحسان… الذي كبر في ظل حبرها لا ظلّها.

وأعادت تعريف معنى أن تكون امرأة في وجه العالم.

في ذكرى رحيلها، لم نجد أصدق من أن نُعيد تخيّل حياتها كأنها عدد خاص من المجلة التي أنشأتها بيدها وقلبها.
عدد لا يروي فقط سيرة،
بل يُعيد رسم صورة… لامرأة صنعت مجدها من لا شيء،
سوى الجرأة.
عدد يحمل كل أبواب المجلة… لأن حياتها حملت كل الأبواب.

 

باب المرأة | “الاسم: فاطمة… والحلم: أن أكون”

في البداية، كانت “فاطمة”.
طفلة صغيرة، ولدت في طرابلس بالشام، يتيمة الأم، غائبة الأب، لا تحمل من الحياة سوى اسمٍ صغير وعيون تبحث عن حضن.
ربّتها أسرة لا تنتمي لها، وأسكنوها بيتًا لم يكن بيتها، وكان أقسى ما في هذا البيت… أنه لا يعرف الحنان.

في يوم ما، حاولت الأسرة التخلص منها، بإرسالها إلى البرازيل مع أحد معارفهم. هناك، على رصيف الغياب، انفجرت الحقيقة:
“هذان ليسا أمك ولا أباك… اسمك الحقيقي فاطمة، وأنتِ ابنة رجل تاجر يُدعى محمد محيي الدين اليوسف.”

في لحظة واحدة، سقطت الطفلة من عرش البراءة إلى هاوية الأسئلة. كان العالم ينتظر أن يسلب منها آخر ما تملك: إنسانيتها.

لكنها لم تنهَر… بل بدأت تكتب قصتها.

حين وصلت إلى مصر، لم يكن معها شيء. لا عائلة، لا هوية، لا مستقبل.لكن كان معها شيء أقوى من كل ذلك:
رغبة في أن تخلق نفسها بنفسها.

 

باب الفن | “من ضوء المسرح إلى ضوء الكلمة”

قبل أن تكتب بالكلمات، كتبت بجسدها على خشبة المسرح. كانت تمثّل الأدوار، لا لتهرب من الواقع… بل لتتدرّب عليه.

وصلت مصر في الرابعة عشرة، يتيمة، ضائعة،
لكن على سطح باخرة، وجدت أول يد تمتد لها: المخرج إسكندر فرح. نزلت معه إلى الإسكندرية، وانضمت لفرقته كممثلة مبتدئة… لكنها لم تبقَ مبتدئة طويلًا.

دخلت الفن من باب الصدفة، لكنه تحوّل بسرعة إلى مصير. ثم جاءت المرحلة الأهم في حياتها الفنية: عزيز عيد. رجل رأى في عينيها شيئًا لم يره غيره، علّمها القراءة والكتابة، وأحضر لها كتبًا،دفع من جيبه لشيخ يُدرّس لها اللغة العربية،وتحدّث معها بالفرنسية حتى أتقنتها. كان أول من عاملها كإنسانة تستحق أن تتعلّم…
وأول من منَحَها حنان الأب الذي لم تعرفه أبدًا.

ثم انطلقت.
مع جورج أبيض، مع يوسف وهبي، مع فرق مسرحية ضخمة.في مسرحية “غادة الكاميليا” خطفت القلوب،
وقال عنها النقاد: “سارة برنار الشرق.”

كان المسرح بيتها الأول. صعدته بلهفة، وبَكت فوقه، وسمعت التصفيق كما لم تسمعه امرأة قبلها.
لكنها لم تسكر بالأضواء.

في عام 1923، بعد خلاف شهير مع يوسف وهبي –
بسبب إسناده دور البطولة إلى الفتاة الصغيرة أمينة رزق –
حدثت القطيعة،قال لها وهبي:
“سيبقى التاريخ يذكر اسمي… أما اسمك فسينسى.”

فأجابته روزا:
“كلنا سنموت، لكن هناك من يترك الاسم، وهناك من يترك الأثر… وسترى.”

وفي ذلك اليوم، حين عادت من المسرح غاضبة، لم تبكِ، ولم تكتب مقالًا غاضبًا… بل قررت أن تبدأ مجلة.

وهكذا، دخلت روزا إلى تاريخ آخر…
تاريخ لم يُكتب على المسرح، بل صُنع في الصفحات الأولى.

وفي تلك الليلة، ولدت الفكرة… فكرة المجلة.

 

باب الأدب | “عندما يصبح الحبر بيتًا… ويصبح الاسم مشروعًا”

في أحد أيام أكتوبر 1925، كانت روزاليوسف تجلس في محل حلواني “كسّاب” بوسط القاهرة، مع زوجها الثاني زكي طليمات، والصحفي إبراهيم خليل، يتصفحون مجلة هجومية اسمها “الحاوي”،كانت تُهاجم الممثلات والفنانين بلا رحمة.

توقفت روزا، رفعت عينيها، وقالت بسؤال بسيط… لكن فيه كل المعركة:
“ليه مفيش مجلة فنية تدافع عنهم؟”
وصمتت لحظة، ثم قالت بثقة:
“أنا هعمل مجلة… وهسمّيها روزاليوسف.”

قالوا: مجنونة.
قالت: أنا ممثلة مشهورة، والناس هتشتريها علشان الاسم.
لكن الحقيقة؟
هي كانت بتشتري حُلمها، مش بس بتبيعه.

في صباح اليوم التالي…
كانت على مكتب الداخلية، تطلب الترخيص. ثم جلست مع محمد التابعي، الشاب الصاعد، واختارت بنفسها كل تفصيلة:من الغلاف، للعناوين، للأقلام.

صدرت المجلة من شقتها في شارع جلال – الدور السادس 
واللي عايز يطلع، لازم يعدّي 95 سُلّمة!
والتابعي نفسه كان بيرفض يطلع، فكانوا يراجعوا البروفات على القهوة!

لكن رغم كل التعب…
كان صباح 26 أكتوبر 1925 بداية لمجد جديد،
لما خرج باعة الصحف يصرخوا في الشارع:
“روزاليوسف… البلاغ… الأهرام!”

وبدعم من زوجها الثاني، الفنان والمخرج زكي طليمات، الذي تحمّس للفكرة وساعدها في أول خطواتها، وُلد أول عدد من المجلة.
وكانت روز قد أنجبت من زكي طليمات ابنتها الوحيدة آمال،

ثم… لم تكتفِ.
أرادت أن تصدر سلسلة كتب.
فجاءت بـ طه حسين، والمازني، والعقاد، ونجيب محفوظ…
وأطلقت سلسلة “الكتاب الذهبي” عام 1956،
وكان أول عدد فيها هو مذكراتها: “ذكريات”.

كانت ترى الأدب مثل الصحافة:
لا يكون حقيقيًا إلا إذا خاض في العمق، وواجه، وحرّض على التفكير.
لهذا لم يكن مشروعها مجرد صفحات تُقرأ،
بل ذاكرة تُبنى… ومكتبة تُشبهها.

 

باب السياسة | “الصفحة الأولى التي لم تخشَ أحدًا”

في زمن كانت الصحافة حكرًا على الرجال،
دخلت روزا لتقلب الطاولة، لا لتطلب مقعدًا عليها.
ولم تدخل السياسة من باب الأحزاب،
ولا من نوافذ الصفقات… بل دخلتها كما تدخل الشمس:
واضحة، ساخنة، ولا تُخفي نيتها في كشف كل شيء.

وبعد أن بدأت مجلتها بفكرة بسيطة: الدفاع عن الممثلين ضد حملات التشويه. تحوّلت سريعًا إلى مشروع ثقافي… ثم إلى سلاح سياسي.

وبعد ولادة فكرة مجلة “روزاليوسف”، أول مجلة فنية تحمل اسم امرأة،ثم تحوّلت من فنية إلى أدبية، ثم إلى سياسية…ثم إلى شوكة في حلق السلطة.

لم تكن تكتب بحبر أسود، بل بنبض أحمر.
خاضت معارك مع وزراء، وواجهت المصادرة، والاستدعاء، والتضييق.لكنها لم تتراجع.لم تكن تطلب حماية من أحد،
كانت تؤمن أن الصحافة التي لا تُغضب، لا تُفيد.

الوزراء كانوا يحسبون ألف حساب لغضبها، والصحفيون كانوا يوقّتون مقالاتهم على توقيت شجاعتها.
قال عنها مصطفى أمين:
“لها شجاعة ألف رجل… إذا أقدمت لا تخاف، وإذا حاربت لا تُهادن، ولا تمقت شيئًا أكثر من التراجع.”

أسّست روزاليوسف صحافة تُشبهها…
صادقة، شرسة، عاقلة، لكنها لا تخاف.

ومثلما صعدت على المسرح بلا تعليم أكاديمي،
صعدت المنبر الصحفي بلا وراثة،
فأصبحت أول امرأة تُهدد جريدة كبرى… وتفوقها انتشارًا.

ولأنها لم تُدر الصحافة كعمل، بل كقضية،
فقد صارت المجلة في عهدها صوتًا لمن لا صوت له.

وصفتها الدولة بالمزعجة، والناس بالشجاعة،
أما هي، فوصفت نفسها فقط بأنها:
امرأة تكتب كما تعتقد، لا كما يُملى عليها.

 

باب المجتمع | “أمّ لإحسان… وأمّ لكل من كتب… ومثّل بلا خوف”

لم تكن روزاليوسف فقط أمًّا لإحسان عبد القدوس،بل كانت أمًّا لمجتمع كامل من الكتّاب، والممثلين، والمهمّشين الذين وجدوها قبل أن يجدوا أنفسهم.

حين تزوّجت محمد عبد القدوس، أنجبت إحسان، لكنها لم تُكمل معه…اختار أن يبتعد، واختار المجتمع أن يعاقبها.

لكنها لم تنهزم.عادت أقوى… وقررت أن تفتح بيتًا ليس فيه أبواب مغلقة على امرأة، بل صفحات مفتوحة للجميع.

حتى وهي ممثلة، كانت تشعر أن الكلمة تُناديها.
وكان الفنانون يشعرون أنها واحدة منهم… وأنها الأم التي تُدافع عنهم.

وكل من عرفها – ممثلًا، كاتبًا، شابًا في أول الطريق –
خرج من بيتها وهو يعرف أنه ليس وحده.كانت أمًّا صارمة، لكنها حاضرة.لا تسمح بالخطأ، لكن تعلّمه.

أنجبت إحسان عبد القدوس،ولم تربِّه على عينها… بل على ضميرها.ابتعد عنها في طفولته قسرًا بعد طلاقها من والده محمد عبد القدوس، وعاش في بيت جده الأزهري الصارم،
لكن روزا لم تنكسر. وحين كبر، عاد إليها…ليجد فيها امرأة لا تُحاصره بالحنين،بل تفتح له بابًا إلى الفكر، والحرية، والكتابة.

في بداياته، كتب قصة قصيرة وتركها على مكتبها،
فقرأت بصمت، ثم قالت:
“الكاتب الحقيقي لا يُقاس بطول جمله… بل بصدقها.”
ومن يومها، أطلقت يده… وقلمه.


وكتّابًا كثيرين لم تنجبهم من رحمها. فتحت بيتها وقلبها ومجلتها لمن يبحث عن فرصة أو معنى.وفي كل عدد جديد، كانت هناك فرصة جديدة لشاب خائف، وفي كل صفحة، حضن دافئ لمن لا يعرف من يحتضنه.

كانت تفتح لهم بيتها كما تفتح قلبها،
تجلس معهم على الأرض، تُراجع معهم البروفات،
تطهو لهم أحيانًا، وتصرخ أحيانًا،
لكنّهم كانوا يعرفون: أن من يقسو عليهم يحبهم أكثر.

دعمت الشباب، وشجعت الأقلام الجديدة، وآمنت بالكاريكاتير كصوتٍ بديل. من المجلة خرج:
صاروخان، المصري أفندي، عبدالسميع، صلاح جاهين، حجازي، بهجت، جمال كمال، أبو العينين.

وكتب في روزاليوسف:
مصطفى أمين، علي أمين، هيكل، أحمد بهاء الدين، فتحي غانم، صلاح حافظ، يوسف إدريس، مصطفى محمود. بل إن نجيب محفوظ كتب فيها وهو طالب في أولى آداب.


في مقهى أمام المجلة، كانت تجلس مع محمد التابعي،
تراجع الأعداد، تُخطط، تُراجع، تُنقّح.
في الوقت الذي كان غيرها يصعد سُلّم الحياة الاجتماعية…
كانت تصعد 95 سُلّمة إلى شقتها في شارع جلال،
حيث وُلدت المجلة، وعاشت الكلمات، وشبَّت الحقيقة عن الطوق.

وفي تلك الشقة – فوق كل الضجيج –
كانت تُربّي الأجيال… وتطبخ للثورة أول مقالة.

 

الصفحة الأخيرة | “حين يتوقّف الجسد… لكن المجلة لا تُطوى”

في العاشر من أبريل 1958،
أسدل القدر الستار على حياة كتبتها روزاليوسف بنفسها،
سطرًا بعد سطر، ووقفةً بعد وقفة، وجرأةً لا تشبه إلا نفسها.

فجر عيد الفطر، رحلت فاطمة… التي صارت روزا، لم يمهلها القدر لتشاهد مبنى مؤسستها الجديدة، ذلك المبنى الذي اشترت أرضه بيديها، لكن ما لا يعرفه القدر… هو أن روزا لم تكن تنتظر مبنى لتُخلَّد فيه، بل بنت لنفسها ذاكرة تُطبع كل يوم، وتُوزّع على الناس، وتُقرأ في كل بيت.

حين أُغلق باب مكتبها للمرة الأخيرة،
لم يتوقّف شيء.
لم تسكت المجلة.
لم يتأخر الطبع.
لأنها كتبت ما لا يمكن محوه:
قيمة الكلمة، وسلطة الحبر، وشجاعة امرأة لا تخاف الصفحة الأولى!

روزا لم تكن فقط سيدة الصفحة الأولى،
بل كانت امرأة تكتب عمرها كما تُكتب الحقيقة: بلا خوف. وصوت النساء حين لم يكن لهنّ صوت،
وذاكرة وطن كانت تُكتب في هوامش الحياة… فتحوّلت إلى عناوين..


خاتمة العدد | “امرأة بكل الأبواب”

في عدد واحد،
فتحنا باب المرأة… فوجدنا فاطمة.
وباب السياسة… فوجدنا الجريئة.
وباب الفن… فوجدنا الحسّاسة.
وباب المجتمع… فوجدنا الأم والمعلمة.

لكن الحقيقة أن روزاليوسف لم تكن في باب واحد،
بل كانت المجلة كلها.

كل مرة تُكتب فيها كلمة صادقة،
وكل مرة تُفتح فيها صفحة جريئة،
وكل مرة تقف فيها امرأة وتقول: “أنا أقدر”،
تعود روزا من جديد.

تم نسخ الرابط