“حين تغني الروح.. حوار مع أم كلثوم بعد 50 عامًا”

“هناك أصواتٌ لا تموت، بل تبقى عالقةً بين السماء والأرض، تسكن القلوب وتحيي الأرواح.. أصوات تُشبه الدعاء في ليله الصافي، تُشبه الصمت حين يمتلئ بالمعنى.. ومن بين هذه الأصوات، يظل صوت أم كلثوم واحدًا من تلك النغمات التي تُشبه النور، نغمةٌ تلامس الروح قبل أن تصل إلى الأذن.”
“في ليلة صافية، بينما كنتُ أغرق في تأملاتي، سمعتُ صوتًا ينساب كالماء.. لم يكن مجرد صوت، بل كان حضورًا.. التفتُّ، فوجدتها أمامي، كأنها جاءت من زمن بعيد، لكن صوتها كان لا يزال ينبض بالحياة.. نظرت إليّ بعينيها العميقتين وسألتني: ‘هل ما زلتم تغنون للروح؟'
ومن هنا بدأ الحوار.. بين زمنٍ كان فيه الغناء طريقاً، وزمنٍ أصبح فيه كل شيء سريعًا.. وبين صوتٍ بقي خالدًا، وأرواحٍ لا تزال تبحث عن نفسها في نغماته.
“كنت أمشي وحدي في طريق طويل، لا نهاية له.. تحيطني سماء صافية، لكنني لم أشعر بالوحدة. كان هناك صوت يأتي من بعيد، صوت يملأ الفراغ.. وكأن الكون كله ينصت.”
“القلب يعشق كل جميل..”
“كان الصوت مألوفًا، صوتًا لا يُخطئه قلبي، صوتًا عشتُ معه لحظات تأمل، صوت كوكب الشرق..”
التفتُّ، فإذا بها أمامي، ترتدي جلبابًا أبيض بسيطًا، وتحمل بيدها مسبحة.. نظرت إليّ بعينيها العميقتين، ثم سألتني:
“هل ما زلتم تتذكرون هذه الأغاني؟ هل ما زالت أرواحكم تتأمل في الكلمات كما كنتم تفعلون؟”
“القلب يعشق.. لكن أي عشق؟”
جلستُ أمامها، وحاولت أن أجيب على سؤالها. قلتُ لها:
“صوتكِ لا يزال حيًا، وأغانيكِ لا تزال تُسمع، لكن قلة هم من يتأملونها بنفس الروح التي غنّيتِ بها.”
ابتسمتْ وقالت بصوت هادئ: “الغناء كان صلاتي، كنتُ أشعر أنني أقف بين يدي الله عندما كنتُ أقول ‘القلب يعشق’.. هل لا يزال أحد يشعر بذلك؟”
أجبتها: “هناك من يسمعها ليطرب، وهناك من يسمعها ليشعر.. وهناك من يسمعها ليصل.”
ابتسمتْ وقالت: “إذن، ما زال هناك أمل.”
“رحلة إلى عرفات الله”
سألتُها: “وما الذي كنتِ تشعرين به عندما غنّيتِ ‘إلى عرفات الله’؟”
أغمضت عينيها للحظة، ثم قالت: “كنتُ أشعر أنني أحمل العالم كله بين كلماتي.. أنني أخاطب أرواحًا لم تر الحج لكنها تشتاق، وكأنني أفتح لهم بابًا إلى نور الله.”
ثم سألتني: “والآن، في زمنكم.. هل لا يزال الناس يحلمون برحلة كهذه، أم أن الشوق أصبح مجرد عادة؟”
تأملتُ في السؤال.. وقلتُ: “أحيانًا، نخشى أن يتحول الشوق إلى مجرد قائمة مهام.. لكن في قلوب الصادقين، لا يزال النداء حيًا.”
“حديث الروح.. هل لا زالت الأرواح تتحدث؟”
رفعت يدها، كأنها تحاول أن تلمس السماء، ثم قالت:
“حديث الروح للأرواح يسري.. وتدركه القلوب بلا عناءِ”
ثم نظرت إليّ وسألتني: “هل لا تزال الأرواح تتحدث؟ أم أن الضوضاء أطفأت صوتها؟”
قلتُ لها: “الأرواح لا تزال تتحدث، لكنها أحيانًا تُدفن تحت زحام الحياة.. لكن عندما يصمت كل شيء، عندما يكون الإنسان وحده في الليل، يعود ليستمع.. ويجد صوتكِ هناك.”
“صوتي كان رسالة.. والرسالة لا تموت”
أم كلثوم وقفت، ونظرت إليّ نظرة أخيرة قبل أن تتلاشى صورتها في نور خفيف، ثم قالت:
“كنت أغني لأنقل المشاعر.. لأنقل الصدق.. لأنقل ما في القلب إلى القلب.. والصدق لا يضيع.. لا بد أن يجد طريقه.”
ثم ابتسمت وقالت:
“أنا لم أكن أغني فقط.. كنتُ أصلي.”
عندما استيقظتُ من هذا الحلم – أو اللقاء – شعرتُ أنني لم أكن وحدي. كان صوت أم كلثوم لا يزال يملأ الغرفة.
“القلب يعشق كل جميل.. وياما شفت جمال يا عين..”
وربما، ما زلنا جميعًا نبحث عن ذلك الجمال.. وربما، صوتها سيبقى معنا حتى نجد الطريق إليه.