أنت السبب يابا .. الفاجومي "نو فلتر نو ميكب"

منذ أن بدأت "الفلاتر " بالتعبير الدارج تغزو حياتنا ، انتابني شعور بأن حياتي لم يكن لها قيمة قبل هذا الاختراع ، حتى أصبحت مثارا للتندر ممن حولي وقبلهم نفسي ، فأنا لست فقط فتاة لا تجرأ على التقاط " السيلفي "بدون " فلتر" ، لكني أيضا لا أجرأ على أن أخطو عتبة منزلي حتى وإن كنت ذاهبة إلى "السوبر ماركت " بدون "ماكياج " كامل بكل ما تحمله الكلمة من طبقات وألوان , فلدي عشرة أنواع من "الفونديشن " أخلطهم جميعا وأضع الخليط على وجهي قبل الخروج وتلك هي أولى خطوات الماكياج ، ومضيت في هذا الطريق طويلا ، إلى أن فرضا عليّ ظروف الحياة وجدولي المزدحم بأن أتخلى عن هذه العادة تدريجيا ، فبدأ الأمر بتقليص مساحة "التلييط " ، ولم أعد استخدم كل هذه المساحيق نوبة واحدة ، ثم تطور الأمر إلى الاستغناء عن كريمات الأساس والاكتفاء بأقلام الكحل وحمرة الشفاة ومورد الخدود شأن الجدات اللاتي شارفن على مرحلة الشيخوخة ، حتى وصلت إلى مرحلة لم أعد أكترث فيها إلى وضع أية مساحيق على وجهي إلا وأنا ذاهبة إلى عملي فأضع القليل منه أو مناسبة هامة فأزيد العيار قليلا .. بالطبع سيسأل أحدكم ما دخل هذه المقدمة بأحمد " فؤاد نجم " ؟! .. فأرد عليه : ما أنا جايالك في الكلام !
أتذكر أول مرة خرجت فيها من منزلي بمكياج الجدات ، فرمقتني إحدى صديقاتي بنظرة إعجاب ، وسألتني : أنت عملتي حاجة في وشك ؟! ، بدا على وجهي التوتر قليلا ، ثم عادت تسألني : "هل قمتي بحقن فيلر أو بوتوكس؟! ".. فداهمتها بسؤال لتقصير المسافات - بين ما يراود أفكارها وما ينتابني من شعور : بتسألي ليه ؟ شكلي تخننان! ، لتجيبني إجابة أثلجت صدري: لا بالعكس والله أنا حاسة إنك محلوة بس!!
كدت أطير من فرط الثقة التي منحتني إياها تلك الصديقة ولو إن فضلها عليّ قد تجاوز هذا الشعور وسوف أكشف عن السبب عبر السطور القادمة ، تلك الثقة جعلتني أبادر بالتقاط بعض الصور لنفسي بدون استخدام فلتر ، فوجدتها أكثر جودة بكثير عما كنت التقطه لنفسي من صور ، لأدرك يومها أن الخطأ لم يكن في وجهي ؛ بل كان في نظرتي القاصرة له ، ويداي المرتعشتان عند التقاط الصور ، والمساحيق التي كنت أتركها بالساعات عليه ، فلا أعد أميز ملامحه بدونها ، فلأول مرة ألتقط صورة فلا أجد مساما بارزة أو ملامحاً مشوهة بفعل التكنولوجيا أو ألواناً غير موحدة أو شفاهاً غير متناسقة ، فقط أجد وجها لفتاة عشرينية ولا يمكن أن تمنحها عمرا أكبر كما أعتادت من الجميع .
اليوم وأنا أقرأ كتاب " أنت السبب يابا.. أنا والفاجومي " للكاتبة : نوارة أحمد فؤاد نجم ؛ ابنة الشاعر العظيم الذي كنت أحبه وبعد أن فرغت من قراءة هذا الكتاب ؛ بت أعشقه ، أصبحت تتسارع إلى ذهني نفس الأفكار التي علقت به منذ اللحظة التي اكتشفت فيها أن الحياة " نو فلتر .. نو ميكب " أجمل بكثير من ذي قبل ، ولم أجد تفسيراً لهذا التغير الذي طرأ على نظرتي للأمور ، إلا بعد أن استغرقت في قراءة هذا الكتاب الرائع ، في كل صفحة وكل موقف تسرده لنا نوارة من حياة هذا الشاعر الكبير ، وبقدر كبير من الذاتية حول العلاقة بينها وبينه كأب وكصديق ، وكيف صورته لنا بلا فلتر وبلا ميكب فرأيت كل الجوانب التي يأبى معظمنا تصويرها عن نفسه ، فصورت الابنة لنا نفس أبيها بفجورها وتقواها ، وأنا انتهي من أخر سطور من الفصل الذي اختتمت به نوارة حياة الفاجومي، وجدتني أعشق هذا الرجل ، وجدتني أرى شخصا أجمل بكثير ممن عاهدته أشعارا وآراءً ومواقفً وأحيانا ومضات من حياته ، أحببت الفاجومي الذي كان شديد الحرمان وشديد السخاء في آن واحد ، أحببت الفاجومي الذي كان سريع الغضب وفج الطباع و في نفس الوقت سريع التسامح و شديد الحنان ، أحببت نذالته وتخاذله مع أقرب وأحب الناس إلى قلبه، والذي كان يخفي وراءهما قلبا لا يقوى على مواجهة المصاب ، ويدين لا تملكان سوى تجفيف دموعه حزنا وخوفا من شدة الأهوال التي يواجهونها هؤلاء الناس ، رأيت رجلا يخضع كثيرا للضعفاء ولا يهاب الأقوياء ، يحترم النساء ، لكنه يسيء كثيرا إليهن ، ثم يلوم نفسه ويوبخها وأحيانا يسبها بأفظع الشتائم وأحط الألفاظ نتيجة لما اقترفته من أخطاء في حقهن ، وجدت شخصاً شديد الجرأة ولاذع النقد حتى في حواره مع الخالق ، لكنه شديد الحب والصبر والحمد له على أبسط التعويضات ، وجدته يكره السلفية ويتبادل السباب مع التكفريين لكن قلبه معلقا بمساجد آل البيت وخاصة " سيدنا الحسين " سيد الثوار ومصدر إلهامهم ، وجدته محسوبا على الشيوعيين ومعظم أصدقائه من الملاحدة لكنه يسب صديقه " الفلاح الكافر " كما أطلقت عليه ابنته نوارة حينما حاول إقناعه بالإلحاد ، هذا الرجل الذي سوف اختزل وصفه في تعبير مستعار من الكاتبة الصحفية الكبيرة الأستاذة صافي نار كاظم " والدة نوارة " ، حينما قالت عنه واصفة إياه : " أصله كان تركيبة غريبة " ، وفي الحقيقة أنا أرى أن النفس البشرية في عمومها تركيبة غريبة وتجمع بين العديد من المتناقضات ، لذا إذا عزمت على أن ترى جمال نفس عليك انتزاعها من العالم المثالي المنزه، أو العالم القميء الوضيع ، وأن تردها إلى أصلها أي كما نقول بلغة الانستجرام أن تصورها بحالتها العادية - " نو فلتر .. نو ميكب " - وهنا فقط يا عزيزي ستدرك ما بها من جمال ، وستستطيع التعاطف معها بما فيها من سمو تارة ووضاعة تارة أخرى .. أحب نوارة وأم نوارة وأبا نوارة وأحبني بلا ميكب وبلا فلتر ، وكل هذا بفضل صديقتي التي لم تكتفِ بمنحي ثقة لم أكن في حياتي لأبلغ عشرها بل منحتني منهجا جديدا في الحياة ، فمع كامل احترامي للحواس الخمس، فأنا لا أرى لا أسمع ولا أشعر إلا بقلبي فقط ، ولا أفهم إلا لغة القلوب ، ولا أتذوق إلا بمشاعري .. وأنتِ السبب يا صديقتي ، فيما بلغته من حالة ، أما عن تفسيري لتلك الحالة فالفضل فيها يعود إلى هذا الكتاب الرائع الذي لا يعد فقط سيرة ذاتية لشاعر بل سيرة وطن وشعب ، وأنتِ السبب يا نوارة .