بين ذاكرة بحر البقر وواقع غزة… الرئيس السيسي وماكرون في العريش أمام مشهد يتكرر وطفولة لا تزال مستهدفة

هل هي محض صدفة؟
أن يُوافق يوم 8 أبريل، ذكرى مذبحة بحر البقر،
اليوم الذي يقف فيه الرئيس عبد الفتاح السيسي والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مدينة العريش، لتفقّد مركز حشد المساعدات الموجهة لغزة، وسط حضور شعبي ورسائل واضحة ترفض التهجير وتؤكد على الحق في الحياة،
بينما الطفولة هناك ما زالت تُستهدف،
كما استُهدفت ذات صباح على مقاعد الدراسة في قرية “بحر البقر”.
ربما لا توجد صدفة في مسار الجغرافيا حين يلتقي جرحان،
ولا في ذاكرة الشعوب حين تفتح جرحًا قديماً على وقع مشهد جديد.
بحر البقر… حين سقط الحبر على الدم
لم تكن السماء تُنذر بما هو قادم، ولم يكن الصباح مختلفًا عن غيره في قرية بحر البقر الصغيرة بمحافظة الشرقية.
كان الأطفال يحملون حقائبهم، بأحلامهم الصغيرة، بخوفهم من الواجب، وحنينهم إلى الفسحة.
مدرسة ابتدائية بسيطة، بثلاثة فصول خشبية، بلا أسوار، ولا ملاعب، لكن فيها ما هو أصدق من كل ذلك: طفولة آمنة، وعالم لا يعرف سوى الحروف الأولى من الأمل.
وفي لحظة واحدة،
حلّقت خمس طائرات فانتوم إسرائيلية في سماء القرية،
ووجّهت قنابلها نحو المدرسة، فانهار الحلم فوق رؤوس الصغار.
لم يكن الهدف أكثر من مدرسة، وكان الضحايا أكثر من ثلاثين طفلًا، لا يعرفون من العسكرية شيئًا، إلا إن كان رسم دبابة على دفتر الرسم… أو كلمة “جندي” في نص القراءة.
في لحظات قصيرة،
تحوّل الحلم إلى رماد،
وتحوّل الفصل إلى حطام،
وتحوّلت الطفولة إلى سؤال مؤجل منذ نصف قرن: لماذا؟
حين تصبح الذاكرة أقسى من الحرب
ما حدث لم يكن أول جريمة، ولن يكون آخرها،
لكن مذبحة بحر البقر لم تهزّ الضمير الإنساني فقط، بل أعادت تعريف الألم.لأول مرة، يُقتل الأطفال في مقاعدهم،
بلا ذنب، بلا صوت، بلا إنذار.
بقيت هذه الذكرى حيّة في وجدان المصريين، ليست لأنها الأبشع، بل لأنها الأكثر براءة. لأنها اختبرت شيئًا لا يُختبر:
أن تسقط قنبلة على دفتر،أن تنفجر حصة اللغة العربية،
أن يغيب طفل عن العودة… إلى الأبد.
ولم تمضِ شهور حتى جاء الرد المصري بعملية نوعية في مايو 1970، قُتل فيها 28 جنديًا إسرائيليًا، وأُسر اثنان،
وسمّتها إسرائيل “السبت الحزين”.
لكن هل يكفي الرد العسكري لشفاء هذا النوع من الفقد؟
هل تُرمم الكرامة كراسة كتب فيها طفل اسمه للمرة الأولى؟
“الدم غالي… والتراب غالي”
في فيلم “العمر لحظة”، كانت ماجدة تقف وسط الجرح، وتشهد ما لا يُنسى،ثم تقول، بجملة حفرت في الأذهان :
“الدم غالي… والتراب غالي…"
لكن في بحر البقر،لم يكن الأطفال يُقاتلون من أجل بلدهم،
بل كانوا يحفظون أسماء الفصول،ويتعلّمون أن “المدرسة وطن صغير”.
قُتلوا قبل أن يعرفوا ما هي الحرب…
وقبل أن يعرفوا أن هناك من يعتبر الطفل “هدفًا مشروعًا”.
وكان “فيلم العمر لحظة” من الأعمال القليلة التي وثّقت مذبحة بحر البقر،حيث تضمّن مشهدًا مؤلمًا يُجسّد القصف على المدرسة،وترافق مع واحدة من أكثر الأغاني صدقًا وتأثيرًا في الذاكرة الوطنية:
“أنا بحبك يا بلادي”.
أغنية كتبها الشاعر الكبير فؤاد حداد، ولحّنها الموسيقار بليغ حمدي، وأصبحت صوت الفن والأدب لهذا الحادث ولحوادث كثيرة في تاريخ مصر.
“محافظتي الشرقية،
مدرستي بحر البقر الابتدائية،
كراستي مكتوب عليها تاريخ اليوم،
مكتوب على الكراس اسمي،
سايل عليه عرقي ودمي،
من الجراح اللي في جسمي،
ومن شفايف بتنادي:
يا بلادي… يا بلادي،
أنا بحبك يا بلادي.”
هذه الأغنية، التي بُثّت بمشاهد من الفيلم ومشاهد حية من آثار القصف،ليست فقط مرثية، بل درس وطني خالص،
لا يُنسى كلما تكررت المأساة باسمٍ مختلف ومكانٍ جديد.
غزة… جرح حاضر بنفس الملامح
اليوم، في غزة، تتكرر القصة بنبرة أشدّ حزنًا. مدينة تُقصف، أطفال يُقتلون، مدارس تُمحى،ولا شيء يتغير سوى عدد الشهداء.
ما بين بحر البقر وغزة،
لا يزال الطفل هو العنوان،
ولا تزال الطفولة مستهدفة… من جديد.
العريش… حيث تُرفع الرسائل في وجه الألم
وفي قلب هذا المشهد، جاءت زيارة الرئيس السيسي والرئيس ماكرون إلى العريش، حيث تتكدّس المساعدات، وتُفتح الممرات، في محاولة لإعادة الحياة إلى من ما زالوا يقاومون الموت.
زيارة لا يمكن فصلها عن الذاكرة،ولا يمكن فصلها عن الضمير،لأن غزة اليوم… هي بحر البقر بالأمس،
والعريش الآن… هي خط الدفاع الإنساني الأول.
في ذكرى بحر البقر، لا نحتاج أن نُذكّر العالم بالجريمة،
بل نُذكّر أنفسنا أن الطفولة لا تدخل الحروب، لكنها تدفع ثمنها.
أن لا حرب تُبرر موت طفل،
ولا قضية تُبيح قصف حصة رياضيات.
من بحر البقر إلى غزة…
قد تتغير الأسماء،
لكن الطفولة ما زالت في مرمى النار.
ولابد أن نُذكّر أنفسنا أن الذاكرة ليست للحنين فقط…
بل للعدل أيضًا.