مقال : صديقي

اتهمني بعض من حولي أن مقالاتي كئيبة سوداوية ، وأن عيني لا ترى سوى سلبيات مجتمعي ، فكان ردي أنني اتطلع للأفضل ، والحقيقة أنمك كلما تعمقت أكثر ازداد الواقع ظلمة!! لكني اشفقت عليهم من هذا الظن ، فقررت أن اكتب عن اكثر الأشياء إيجابية ، فكما ننتقد سلبيات عصرنا، وجب أن نفتح طاقة نور نستمد من أشعتها الدفيء ...فكرت ......وفكرت ......... ووجدتها !!!! المرأة .. صدقاً المرأة هي أجمل ما في هذا الزمن .. قد يتهمني البعض بالانحياز إلى بنات جنسي ، وقد يشعر أي رجل بالغبطة او (الفرسة) وهو يقرأ سطوري ، قد لا يكمل أحدهم المقال ، وربما يكز صديقي على أسنانه وتطنطن في أذنه الان ( نعم ؟!! على ايه بقى إنشاءالله !! ايه الافورة دي !!) هديء من روعك يا صديقي ، وكفى رفقا بأسنانك ! تعالى معي في رحلة قصيرة اريك فيها نموذجا من نساء اليوم ، سأمنحك تأشيرة دخول لترى عالمنا ، عالم حواء عن قرب ... ذهبت مع صديقي نتجول في شارع في وسط البلد ، وبدأت عين صديقي تحوم وكأنها كاميرا تريد ان تلتقط أكثر ما يمكنها التقاطه من سلبية ، لكنه وجد أغلب الفتيات حسنات المظهر ( أقول الأغلب يا صديقي واستثني القلة فلا تتصيد لي الكلمات ولنمضي سويا) ، أصبحن الفتيات أكثراطلاعا على الأزياء يطبقن منها ما يناسبهن. امشي وانا اشتم راءحة عطورهن فينتابني غرور بسيط وتدفعني الثقة الى خطوات اخرى لنقترب منهن اكثر : دخلنا أنا وصديقي محلاً لملابس السيدات ، فوجدنا باءعة محجبة جميلة مهندمة ، سألتها متدعية انني أريد أن أشتري : - مساء الخير ، عندك زي البودي ده اكبر - هي : سوري يا فندم أنا آسفة جداً ، دي لاست بيس ، بس هيجلنا الأسبوع الجاي كولكشن جديد!! كانت كلمات الانجليزي غير سليمة النطق لكنها تدل ان هناك مستوى من التعليم يتطلبه هذا العمل البسيط فبادرتها بسؤال : - أنا : هوا أنت متعلمة ؟ - هي: آه يا فندم ، انا بدرس تجارة انتساب وبالليل بشتغل فالبوتيك ده. - أنا : طب بتشتغلي ليه ظروفك صعبة ؟ مظنش انا شايفاكي متانتكة عالاخر!! - هي : الحمد لله يا فندم بس أنا بجهز نفسي أصل أنا مكتوب كتابي ، ودخلتي كمان ست تشهر وعايزة أساعد أهلي ، وكمان حضرتك عشان نعيش انا وجوزي فمستوى كويس .. - أنا : بالتوفيق إنشاءالله ، وعيني معلقة بصديقي ، الذي بدا عليه الانبهار ولكنه سرعان ما نفض هذا الانبهار عن وجهه ليرمقني بنظرة تهكم قائلا : (شوف ازاي !! ) لم أعلق فأنا لا أريد استفزازه وكل همي أن يكمل معي الرحلة . أخذت صديقي المتهكم وذهبنا لنتابع يوميات احدى الأمهات في ماتش حياتها اليومية ، جلسنا في الصفوف الأمامية حتى يتسنى لصديقي الروءية عن قرب . حياة : امرأة عاملة ، حسنة المظهر والقوام : هي مديرة في إحدى شركات الاتصالات . تتثاءب حياة في سريرها لكن سرعان ما تقفز منه ، لتغسل وجهها وتحضر فطور أطفالها ووجبات المدرسة التي تحرص عَلى كونها صحية ، تدور كالنحلة فلا يوقفها سوى (زمارة الأتوبيس ) : الأتوبيس جيه يا ولاد يلا ، أستودعكم الله !! تستعد حياة الان لخوض الشوط الثاني تلملم ما حولها ثم تستعد للذهاب لعملها في لمح البصر ففرح صديقي شماتة وزل لسانه وقال : ( اتفضلي هتروح شغلها منكوشة بقى زي أمنا الغووو.. ) ، ليلتجم لسانه فلا يكمل جملته حين رآها أيقونة في الترتيب والأناقة متعطرة ، وبدا شعرها مصفف بأنامل خبير تصفيف، وهي أيضاً في عملها دءوبة متمكنة . سرعان ما يعلن الحكم بدي الشوط الثالث دون أي هدنة فيعود الأطفال من المدرسة ، تستقبلهم حياة بشغف ثُمَّ تتابع معهم متطلباتهم :واجبات مدرسية ثم تمارين رياضية فقد الحقتهم بِها لتفريغ طاقاتهم واكتشاف ميولهم رغم ضيق الوقت وإرهاقها لكنها لا تتوانى ان تجعل اطفالها الأفضل فالعقل السليم في الجسم السليم.، تجلس في التمارين تتابع ، تراقب تطور أداءهم ، وتنتظر بشغف صوت صفارة الحكم ليعلن انتهاء التمرين! تعود حياة الى المنزل ينام صغارها .... انتابها الإرهاق ، سمعت صوت أنفاس صديقي بجانبي يلهث من متابعة هذا الماتش السريع الايقاع المرهق ، لكنني لم أشعره بأيّ اكتراث .. الساعة الثامنة: سيعود زوجها من عمله المرهق ليجدها في انتظاره ، جميلة متعطرة مبتسمة ، فقد نفضت ( أو تظاهرت ) غبار اليوم كله عنها !! صفن صديقي قليلا فقال لي : أنك لا تنتقين سوى الطبقة المتوسطة أو الراقية الميسورة الحال ، ليست هذه النماذج العامة في مجتمعنا ! فهززت راسي متظاهرة أنني أوافقه الرأي . أخدته إلى حارة في السيدة زينب ، قابلنا أم بلال (هَكَذَا يناديها أهل الحارة منذ ان توفى زوجها بلال ، رحمه الله) وجدها صديقي امرأة نحيلة ضعيفة ، أخفت علامات الزمن ملامح وجهها الجميل ... ألقينا عليها التحية ثم استأذنتها علَى استحياء أن تستضيفنا يوماً عندها ، فرحبت كعادة المرأة المصرية البسيطة.. أم بلال أرملة ، وأماً لطفلين هما نور عينيها ( طه ومحمد ) هكذا أسمتهم على اسم نبيها فلا تفارقها بركة سيدنا محمد هكذا اعتقدت .... هي أمية لكنّها تصر على تعليم أبناءها حتى ينالوا ( الشهادة الكبيرة ) كما تسميها هي .. اختارت أن تعمل خادمة في المنازل متحدية هشاشة عظامها وضعف بنيتها .. جلسنا على الدكة في منزل أم بلال المتواضع ننتظر عودتها ، وأنتظرنا .... وها قد عادت أم بلال وهي تتعكز لتدخل المنزل ، دخلت مبتلة الملابس متسخة، تحمل قوت صغارها ، توارت بسرعة عن أعيننا خجلا من هيءتها ، ثم عادت بعد قليل وقد اغتسلت وارتدت جلابية بيضاء من القطن ذات ورود صغيرة تشعر ان راءحة الطيبة والألفة والأصالة تفوح منها قالت : لا مؤاخذة كنت بهدوم الشغل.. ألحت أن نشاركهم الغداء قاءلة ( يللا بِسْم الله ، لقمة على ما قسم يا بهوات ) جلست أم بلال لتناول الغداء مع محمد وطه وهم يتحدثون، وهي وتطمئن عليهم وعلى دراستهم وتبتسم لم تشغلهم بيومها فظلت تبتسم ، أخفت صوت أنين عظامها حتى لا تثقل على ملاءكتها الصغار ، ظلّت تبتسم وتبتسم ثم تحتضن فتبتسم .....نظرت إلى صديقي وقد امتلأت عيناه بالدموع وتغيرت ملامح وجهه ... كيف حالك الان يا صديقي ؟! هنا شعرت بنشوة الانتصار .. ولكن كل نماذجي كانت لأمهات أو زوجات أو مقبلات على الزواج !! قد يكون سر استكانة صديقي انه يحمل دافعا من الشفقة لكثرة الاعباء على من رأهن ؟! ان في قلبه الان مزيج من التعاطف الممزوج بالاحترام لنساء حواء ولكني لم يرق لِي هذا المزيج فأحببت ان أضيف له مكونا ذو لذعة يجعله مزيجا سحريا منعشا يأسر قلبه للأبد : شموخ حواء وتمردها ! تذكرت صديقتي العزباء شيماء ، نموذج لفتاة متمردة تبدو متحررة في نظر مجتمعنا ! كان لي رصيد عندها من الثقة يسمح لي بالاقتراب من حياتها مع صديقي ، دون أن تفسر هذا اقتحاماً لحياتها ، وهو ما ترفضه بكل أشكاله هي فتاة ( سنجل ) لا تنكر أهمية الرجل لكنها مكتفية حتى الان بعدم وجوده ، أنها تحارب مقولات متعفنة ( ضَل راجل وَلا ضَل حيطة ) ، شيماء قوية وناجحة وطموحة ، مثقفة .. أخبرت صديقي أننا سنسافر فَهِي تعيش بمفردها في الاسكندرية لظروف عملها ، فلم يلق ذلك استحساناً عنده وأتخيل ما دار في رأسه من أفكار . ذهبنا وفاجأه كونها فتاة ملتزمة في مظهرها ، فقد تخيلها ستسقبلنا بالهوت شورت أو بملابس البحر مثلا !!! تحدثنا فوجدهااجتماعية ولكنّها تجيد رسم سور علاقاتها فلا يتجاوزه أحد ، هي تشعر أحياناً بالوحدة لكنها لا تخضع لرغبات رعينة تفرغ فِيْهِ طاقاتها ، بل تتمرد فتنشيء مدرسة لتعليم الفتيات قيادة الدراجات النارية وتختار أن تتحمل نظرات الانتقاد لخروجها عن المألوف وان كان في نطاق مشروع.. اختارت أن تفجر طاقاتها أمام الجميع وتتحمل نقدهم ، بدلا من التخفي والتمتع في الظلام وكسب تقديرهم !! ورحلنا لنتركها في يومها فقد اختلسنا كثيرا من خصوصيتها المحظورة.. لم أكن في حاجة أن اسأل صديقي عن رأيه ، فقد ارتسم على وجهه ما استقر في قلبه ، ودعته وعدت إلى منزلي بعد يوم شاق فخورة بنساء وبنات عصري ، أشعر حلاوة سعادة ولذة انتصار ، لم انتصر على عدو بارزته ، بل كسبت صديقاً جديداً أخذ سيفه الذي تحفز أن يبارزني به ، ليقف إلى جانبي ونبارز سوياً في هذه الدنيا : ننجح معاً ، نفرح معا ، وإذا تعرقل أحدنا تصدى الاخر يحميه ويبارز عنه حتى يستجمع قواه من جديد... هكذا كنّا وهكذا يجب أن نكون أناوصديقي ...